كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

لِلزِّيَارَةِ فَهَذَا عُذْرٌ لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْمُكَارِي بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مُدَّةَ النِّفَاسِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَقَلَّ فَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِثْلُ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهُ عَادَةً وَكَانَ الْمُكَارِي مُلْتَزِمًا ضَرَرَ التَّأْخِيرِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهَذَا عُذْرٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَاتَ وَلَا سَبَبَ لِلْفَسْخِ أَقْوَى مِنْ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَارِيَ الْتَزَمَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بِدَابَّةٍ أُخْرَى يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا.

وَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا سَارَ وَيَبْطُلُ عَنْهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ.

وَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْإِبِلِ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَهَا عَلَى حَالَةٍ حَتَّى يَأْتِيَ مَكَّةَ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَفَازَةٍ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى سُلْطَانٍ وَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْإِجَارَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إيفَاؤُهَا بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ الِانْتِقَاضِ لِدَفْعِ الضُّرِّ. وَإِذَا كَانَ فِي الْمَفَازَةِ لَوْ قُلْنَا بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِصْرَ فَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ وَمَوْتُ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ مُوجِبٌ انْتِقَاضَ الْعَقْدِ.
فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ لَمْ يَضْمَنْ إنْ عَطِبَتْ مِنْ رُكُوبِهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا بَقِيَ لِلتَّعَذُّرِ صَارَ الْحَالُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَارِي كَالْحَالِ قَبْلَهُ. فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْعُذْرِ قَدْ زَالَ وَبَقِيَتْ الدَّابَّةُ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ عَيْبٌ فَدَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي فَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْقَاضِي الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ إمَّا؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَرَى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِهِ لِيَرُدَّهَا إلَى الْكُوفَةِ وَصَاحِبُهَا رَضِيَ بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ فَالْأَوْلَى لَهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ثِقَةً أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ، وَإِنْ رَأَى النَّظَرَ فِي بَيْعِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَعْثَ بِثَمَنِهَا إلَى الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْفَعَ وَأَيْسَرَ لَهُمْ فَإِنَّ الثَّمَنَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهَا شَيْئًا لَمْ يُحْسَبْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَيُحْسَبُ لَهُ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فَالْإِنْفَاقُ بِأَمْرِهِ كَالْإِنْفَاقِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ الْقَوْلُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْإِنْفَاقِ.
فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَوْفِيَةِ الْكِرَاءِ رُدَّ عَلَيْهِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ

الصفحة 5