كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَشَهْرًا بِسِتَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا إنْ كَانَ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ أَوَّلًا فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَجِبُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا يَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ الْمَذْكُورَ آخِرًا إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ شَهْرَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَالشَّهْرَانِ الْأَوَّلَانِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِتَفْسِيرِهِ بِالشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْ خِدْمَةِ الْحَضَرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ شُقَّةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ (قِيلَ) هُوَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ لِلْخِدْمَةِ (قُلْنَا) إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ اسْتِخْدَامُهُ فِي الْكُوفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَجِيرَهُ، وَإِنْ سَافَرَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ بِالْكُوفَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُوفَةِ.

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ لِيَسْتَخْدِمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِدْمَةَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِخْدَامَ فَقَطْ وَالسَّفَرُ بِهِ وَرَاءَ الِاسْتِخْدَامِ وَهُوَ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ سَافَرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَعَطِبَ فَهُوَ ضَامِنٌ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدَّابَّةِ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَفِي الْعَبْدِ أَوْلَى وَهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْعَبْدُ مُخَاطَبٌ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَيَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهِ عِنْدَ الِاسْتِخْدَامِ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا تَتَفَاوَتُ فِي السَّيْرِ إلَّا بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُتَعَارَفًا.
وَإِنْ دَفَعَ الْأَجْرَ عِنْدَ غُرَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَجَّرَهُ لَمْ يَبْرَأُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَالِكَ لِلْأَجْرِ فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ

الصفحة 54