كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ. ثُمَّ (قَالَ) وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ أَنْ تَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مَعْنًى، وَلَكِنْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ السُّنَّةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ

ثُمَّ (قَالَ) اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ فِيهِ حَتَّى إذَا قَالَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ لِيَأْتِيَ بِهِمْ فَرُبَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ حَقَّهُ لِوُضُوحِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ لِيَأْتِيَ بِهِمْ، وَبَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الدَّفْعَ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي لِيَأْتِيَ بِدَفْعِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي عَدْلِهِ وَلْيَكُنْ إمْهَالُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِخَصْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِعْجَالَ إضْرَارٌ بِمُدَّعِي الدَّفْعِ، وَفِي تَطْوِيلِ مُدَّةِ إمْهَالِهِ إضْرَارٌ بِمَنْ أَثْبَتَ حَقَّهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ دَعْوَى الدَّفْعِ فَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ مَا ادَّعَى مِنْ الدَّفْعِ وَجَّهَ الْقَاضِي إلَيْهِ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا تَقُومُ عَلَيْهِ إذْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالطَّعْنِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جَانِبَ الْمُدَّعِي فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ أَلْزَمْته الْكَفَّ عَنْ أَذَى النَّاسِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ لِلْقَاضِي عِنْدَ مَنْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَّهَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمْهَلَهُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ انْصَرَفَ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِرًا لَهُ سَاكِتًا. وَإِذَا لَمْ يُمْهِلْهُ انْصَرَفَ شَاكِيًا مِنْهُ يَقُولُ مَالَ إلَى خَصْمِي وَلَمْ يَسْتَمِعْ حُجَّتِي وَلَمْ يُمْكِنِّي مِنْ إثْبَاتِ الدَّفْعِ عِنْدَهُ.

ثُمَّ قَالَ «وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَصِفَةُ الْعَدَالَةِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا نَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ مُحَرَّمٌ فِي اعْتِقَادِ كُلِّ مُسْلِمٍ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، ثُمَّ قَالَ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا» قِيلَ الْمُرَادُ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ بِإِقَامَةِ حَدِّ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ فَالْحُدُودُ مَشْرُوعَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَبِظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ

الصفحة 63