كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

بِهِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَنَالَ أَفْضَلَ الْحَظِّ مِنْ الْمَحْمَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْنَى الْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ.

ثُمَّ قَالَ وَأَدْنِ الضَّعِيفَ حَتَّى يَشْتَدَّ قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْأَمْرِ تَقْدِيمَ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَدْنُو بِنَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوِيُّ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، وَرُبَّمَا يَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُدْنِيَ الضَّعِيفَ لِيُسَاوِيَهُ بِخَصْمِهِ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ فَيَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَتَعَاهَدْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَعَاهَدْهُ تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَرُبَّمَا ضَيَّعَ حَقَّهُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ قِيلَ هَذَا أَمْرٌ بِتَقْدِيمِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْغَرِيبَ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي سَمَاعِ الْخُصُومَةِ لِيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِتَعَاهُدِ الْغُرَبَاءِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ الْغَرِيبَ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ. فَإِذَا لَمْ يَخُصَّهُ الْقَاضِي بِالتَّعَاهُدِ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَعَلَيْك بِالصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَك فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ الْخَصْمَ إلَى الصُّلْحِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ، وَبِهِ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ «رَدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ» وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا تَرْتَشِي وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ
أَمَّا قَوْلُهُ لَا يُشَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِالشِّينِ قَالُوا الْمُرَادُ الْمَشُورَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمَشُورَةِ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ طَرِيقُ الْفَصْلِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَظُنُّ جَاهِلٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَزْدَرِيَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَادِثَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَظْهَرُ بِالشِّينِ لَا يُشَارُ مَعْنَاهُ لَا يُشَارُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ خَصْمَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيمَا يُشَارُ بِصَابِعِهِ عَلَى رِشْوَةٍ وَلِذَلِكَ لَا يُشَارُ غَيْرُ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَجْمَعُ النَّاسَ وَمَشَارَةُ الِاثْنَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ تُؤَدِّي إلَى فِتْنَةِ الْآخَرِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَقَوْلُهُ لَا يُضَارُّ مِنْ الضَّرَرِ أَيْ لَا يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْخُصُومِ فِي تَأْخِيرِ الْخُرُوجِ وَلَا يُنَغِّصُ الْخُصُومَ فِي اسْتِعْجَالِهِ لِيَعْجَزَ عَنْ إقَامَتِهِ حُجَّتَهُ، وَفِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ أَوْ فِي أَخْذِهِ يَسْقُطُ مِنْ كَلَامِهِ إنْ زَلَّ فَلِمَجَالِسِ الْقَضَاءِ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْحِشْمَةِ مَا يُعْجِزُ كُلَّ

الصفحة 66