كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 16)

الْمُتَّقِينَ أُنْزِلَ لِلْعَمَلِ بِهِ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ قَالَ. فَإِذَا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي قَضَائِهِمْ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ الْقِيَاسُ يَرُدُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ. وَإِذَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْحُرُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَلَمَّا أَصَابَ فِي جَمِيعِ مَا أَجَابَ قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْتَ قَاضِيهَا أَيْ إنِّي لَا أَعْزِلُك عَنْ الْقَضَاءِ مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ مَنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا يَعْزِلَهُ بِطَعْنِ بَعْضِ الْمُتَعَنِّتِينَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يُحْمَدُ مِنْ السِّيرَةِ مِنْهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا يَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَيِّنُ لَهُمْ فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ مُرَادُهُ الْإِشَارَةُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَالِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَغَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكُوفَةِ وَخَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَلَأْت هَذِهِ الْقَرْيَةَ عِلْمًا وَفِقْهًا.

قَالَ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِقَضَاءٍ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْبَلْوَى بِقَوْلِهِ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ تَحَرَّزَ

الصفحة 68