كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 18)

جَمِيعًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ مَالٌ آخَرُ بَلْ قَصْدُهُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا أَوْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَوْ أَقَرَّ بِالْمِائَةِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ذِكْرُ الْمِائَةِ فِي كَلَامِهِ مُنَكَّرٌ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] فَإِنَّ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِفَادَةِ لَا يَحْمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ
فَإِذَا صَارَ الْمَالُ الْأَوَّلُ مُسْتَحْكِمًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَلَوْ حَمَلْنَا إقْرَارَهُ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَالٍ آخَرَ كَانَ مُفِيدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْمَالُ لَا يَصِيرُ مُسْتَحْكِمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى تِلْكَ الْمِائَةَ فَأَعَادَهُ مُعَرَّفًا لَا مُنَكَّرًا وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَا كَانَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ مَالَانِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: لِلْمَجْلِسِ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعَلَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ (أَلَا تَرَى) الْأَقَارِيرَ فِي الزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِمِائَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ ثَمَانِينَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِمِائَتَيْنِ، ثُمَّ بِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ.

وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً قَرْضًا فَهَذَا دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ

الصفحة 10