كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 18)

حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَلْحَقُهُ عَنْ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ حَقَّ الْغُرَمَاءِ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ وَكَمَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِالتَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّهُمْ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ مَعَهُمْ فَكَانَ مَجْحُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَحَقِّهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ التِّجَارَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِالْمَالِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ لَا سِيَّمَا الْمَالُ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمُحَابَاةٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ بِمَالِهِ يَسْتَنِدُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أَخْبَرَ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْمِلْكِ إلَى أَوَّلِ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمُشْتَرِي الزَّوَائِدَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِأَوَّلِ الْمَرَضِ وَصَارَ مَالُهُ كَالْمَرْهُونِ فِي حَقِّهِمْ فَبَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ.
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْغَيْرِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمُعَايَنِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ فَيَظْهَرُ السَّبَبُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْمَرَضَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي إقْرَارِهِ قُلْنَا هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَرَجَّحَ أَمْرُ دَيْنِهِ عَلَى هَوَاهُ عَلَى أَمْرِ دَيْنِهِ فَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْمُبَادَرَةِ إلَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ مَا كَانَ قَدِمَ بِعَيْنِهِ فِيهَا فَلَمَّا آيِسَ مِنْ نَفْسِهِ آثَرَ مَنْ يَهْوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِمَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْتَادًا كَنَدْرِ تَمْيِيزِ إحْدَى الْحَالَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَجَعَلْنَا الدَّلِيلَ مَعْنًى شَرْعِيًّا، وَهُوَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَفِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ، فَأَمَّا إذَا مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مَا لِإِنْسَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَبَرُّعِهِ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ.

وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ مَالًا أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَعَايَنَ الشُّهُودُ قَبْضَهُ ذَلِكَ فَهَذَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيمَا يَثْبُتُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ بَلْ فِيهِ تَحْوِيلُ حَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَانَ صَاحِبُهُ مُزَاحِمًا لَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّرِكَةُ إلَّا عَيْنَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ قَرْضًا أَوْ بَيْعًا فَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَمَّ مِلْكُهُ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَالْبَائِعُ إنَّمَا

الصفحة 27