كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 18)

بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الْوَارِثُ لَمَّا عَامَلَهُ فِي الصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَاصِلِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ يُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقَبْضِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي هَذَا كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ مَحِلًّا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ.

وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَمُتْ الْمَرِيضُ حَتَّى صَارَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَرَّ لِأَخِيهِ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَوْ كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَأَسْلَمَ أَوْ عَتَقَ وَصَارَ هُوَ الْوَارِثَ دُونَ الْأَخِ جَازَ إقْرَارُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُهُ وَارِثَهُ وَالْوِرَاثَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ هُوَ وَالْأَجَانِبُ سَوَاءً.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمُقِرِّ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ، وَكَانَ هُوَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي أَيَمُوتُ فِي هَذَا الْمَرَضِ أَوْ يَبْرَأُ فَعَرَفْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ لِلْحَالِ صَحِيحٌ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ صَحِيحٌ وَجُعِلَ خُرُوجُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ فِي مَرَضِهِ.

وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا يَوْمَ مَوْتِهِ بِأَنْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ لَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إقْرَارُهُ لَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَتِهِ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَرِضَ وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَبِهَذَا فَارَقَ

الصفحة 32