كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 18)

تَعَالَى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وَمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَنَّكَ قَدْ أَقْرَضْتَنِي، قَوْلُ الطَّالِبِ بَلَى تَصْدِيقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَمَا أَقْرَضْتَنِي أَمْسِ أَوْ قَالَ أَلَمْ تُقْرِضْنِي أَمْسِ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الطَّالِبُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ بَلَى كَانَ هَذَا إقْرَارًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَيْسَ اسْتِفْهَامٌ وَقَوْلُهُ بَلَى جَوَابٌ عَنْهُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ بَلَى لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] مَعْنَاهُ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ بَلَى جَوَابُ الِابْتِدَاءِ بَلْ هُوَ نَفْيٌ، وَقَدْ قُرِنَ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ وَكَلِمَةُ نَعَمْ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَحْضِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَتَى كَانَ بِحَرْفِ الْإِثْبَاتِ فَقَوْلُ نَعَمْ جَوَابٌ صَالِحٍ لَهُ وَمَتَى كَانَ بِحَرْفِ النَّفْيِ فَجَوَابُ مَا هُوَ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ، وَهُوَ كَلِمَةُ بَلَى يُقَالُ فِي تَبَدُّلِ الْكَلَامِ لَا بَلْ كَذَا فَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ بَلَى جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " أَلَسْتُ "، ثُمَّ ذُكِرَ مَسَائِلُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ أَقْرَضْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي إذْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْ وَزَادَ هُنَا لَوْ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَتْرُكْنِي أَذْهَبُ بِهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ وَصَلَ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ الْأَخْذُ فَكَانَ هُوَ مُدَّعِيًا إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْغَاصِبِ يَدَّعِي الرَّدَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَانْتَزَعْتُهَا مِنِّي لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِانْتِزَاعِ مِنْهُ دَعْوَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الرَّدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصْلَ بِالْكَلَامِ إنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِيمَا هُوَ بَيَانٌ، فَأَمَّا دَعْوَى الْفِعْلِ الْمُسْقِطِ لِلضَّمَانِ فَلَيْسَ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْمَوْصُولُ وَالْمَفْصُولُ فِيهِ سَوَاءٌ.

وَلَوْ أَقَرَّ قَصَّارٌ أَنَّ فُلَانًا سَلَّمَ إلَيْهِ ثَوْبًا يُقَصِّرُهُ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ صُدِّقَ، وَإِنْ قَطَعَهُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَسْلَمَ إلَيْهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالتَّسْلِيمَ لُغَةٌ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ، وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ كَانَ هَذَا بَيَانًا مُعْتَبَرًا لِمُوجَبِ ظَاهِرِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا.

وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَعْطَيْتَنِي أَمْسِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلْ هِيَ أَلْفٌ؟ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَ كَانَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الْأَلْفَ كَانَ إخْبَارًا بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِمُوجِبِهِ، وَإِذَا نَقَدَ الْأَلْفَ، فَقَدْ ضَمَّ صِيغَةَ الْإِخْبَارِ لِلْفِعْلِ بِأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخَذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ} [المائدة: 116]، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا إخْبَارًا عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا إخْبَارًا لَكَانَ تَبَرُّؤُهُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ {سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] تَكْذِيبًا فَعَرَفْنَا مِثْلَ هَذَا إذَا قُرِنَ بِهِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ

الصفحة 71