كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 21)

فِي النَّفْسِ فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَصْلَ الْقَتْلِ كَانَ هُوَ الشَّجَّةُ وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَكِنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَفْوِ وَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ كَانَ الصُّلْحُ مَاضِيًا إنْ مَاتَ أَوْ عَاشَ؛ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ السِّرَايَةُ يَكُونُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُسْقِطًا حَقَّهُ عَنْ النَّفْسِ بِعِوَضٍ وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْجِنَايَةِ صَحِيحٌ إنْ عَاشَ أَوْ مَاتَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا جِنَايَةَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا شَجَّةَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ وَالصُّلْحُ بِاسْمِ الْجِنَايَةِ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ بَرِئَ أَوْ سَرَى، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا صَاحِبَ فِرَاشٍ حِينَ صَالَحَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَمْدِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَوْ أَسْقَطَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِالْعَفْوِ لَمْ يُعْتَبَرْ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا أُسْقِطَ بِالصُّلْحِ بِبَدَلٍ يَسِيرٍ أَوْلَى، وَفِي الْخَطَأِ مَا حَطَّ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ، وَهُوَ مَالٌ فَيَكُونُ مَا حُطَّ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا يُقَالُ هِيَ وَصِيَّةُ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ وَصِيَّةً لِعَاقِلَةِ قَاتِلِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الثُّلُثِ.

وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ شُلَّتْ أُصْبُعٌ أُخْرَى سِوَاهَا، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بِالصُّلْحِ مُوجِبَ ذَلِكَ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأُصْبُعَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَسْقَطَ بِالصُّلْحِ قِصَاصًا وَاجِبًا فِي الْأُصْبُعِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الصُّلْحُ الْأُصْبُعَ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُهُ أَرْشُهَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَتَبَيَّنُ بِهَذِهِ السِّرَايَةِ أَنَّ الْأُصْبُعَ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ فَيَبْقَى الصُّلْحُ عَنْهَا صَحِيحًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ بِالسِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الشَّجَّةَ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ قِصَاصًا فَكَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَقِّلَةَ غَيْرُ الْمُوضِحَةِ وَالْمُوضِحَةُ مَا يُوضِحُ الْعَظْمَ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَالْمُنَقِّلَةُ مَا يَكْسِرُ الْعَظْمَ وَيَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ إنَّمَا أَسْقَطَ مِنْ مُوضِحَةٍ مُوجِبَةٍ لَهُ قِصَاصًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَقًّا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الْمُنَقِّلَةِ وَأَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ اسْتَوْفَى مِنْ ذَلِكَ مِائَةً فَالْبَاقِي عَلَيْهِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ.

رَجُلٌ قُتِلَ عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا

الصفحة 10