كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 22)

وَإِنَّمَا أَفْتَى الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا لِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْنِ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَا لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِالْبَيِّنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ

وَعَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُضَارَبَةَ وَالشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ كَمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ " وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ مُقَابَلَتُهَا بِجِنْسِهَا وَبِخِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعَقْدُ بِهَا يَكُونُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ لَا بَيْعًا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ فَهُوَ وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الْأَصْلِ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَسَدَتْ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ فَهِيَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ مَبِيعٍ مِنْ وَجْهٍ وَهِيَ ثَمَنٌ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَانَتْ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهَا ثَمَنٌ دَيْنًا وَمَبِيعٌ عَيْنُهَا فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ فَقَالَ: " لَوْ جَوَّزْتُ ذَلِكَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالطَّعَامِ بِمَكَّةَ " يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَتَبَايَعُونَ بِالطَّعَامِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ بُخَارَى يَتَبَايَعُونَ بِالْبُرِّ بِعَيْنِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الصَّحِيحُ جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا عِنْدِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ عِنْدَنَا كَالدَّنَانِيرِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ ".
وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ لَا تَجُوزُ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ دُونَ التِّبْرِ، وَذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ التِّبْرَ لَا يُتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي الرَّوَاجِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُرَوَّجُ التِّبْرُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَعِ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ، أَوْ قَالَ مَا رَزَقَك اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ، أَوْ مَا رَبِحْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ

الصفحة 21