كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 22)

بَابُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ) (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -): " ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِ نَأْخُذُ " وَقَالَ: مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَسْتَرِيحُ عَلَيْهِ بِالتِّجَارَةِ عَادَةً فَيَكُونُ كَالنَّقْدِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُضَارَبَةِ وَكَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعَرَضِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهَا بِالْعُرُوضِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ «بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَالٍ يُضَمَّنُ» وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ تُؤُدِّيَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَرُبَّمَا تَرْتَفِعُ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِذَا بَاعَهَا حَصَلَ الرِّبْحُ وَاسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ فِي ضَمَانِهِ بِخِلَافِ النَّقْدِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ فَمَا يَحْصُل لَهُ يَكُونُ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ هُنَا لَمَّا كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِبَيْعِ هَذِهِ الْعُرُوضِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَفِي النَّقْدِ الرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ جَمِيعًا فَتَكُونُ شَرِكَةً؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْ عَرَضِي هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ وَبِعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك.
وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك صَحَّ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَأْسُ الْمَالِ إذَا كَانَ عَرَضًا فَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِالرِّبْحِ فِي شَيْءٍ لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ النُّقُودِ

فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ الْمَالِ بِمِثْلِ الْمَقْبُوضِ ثُمَّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ فِي أَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ كَالْعُرُوضِ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِمَا يَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ يَحْصُلُ بِهَذَا الْبَيْعِ رِبْحٌ بِأَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يُرَخِّصَ سِعْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَظْهَرَ رِبْحُهُ بِدُونِ الشِّرَاءِ فَيَكُونَ هَذَا اسْتِئْجَارًا لِلْبَيْعِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُرُوضِ فَإِنْ اشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ

وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالسَّتُّوقَةِ وَالزُّيُوفِ وَالتِّبْرِ.
زَادَ هُنَا فَقَالَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا

الصفحة 33