كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 23)

أَنَّهُ مَتَى رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ، وَإِنْ رَبَّى زَرْعَهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

[بَابُ الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فِي النِّصْفِ وَالثُّلُثِ]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ فَاسِدَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى هُمَا جَائِزَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُعَامَلَةُ فِي النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ، وَالْأَشْجَارِ صَحِيحَةٌ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ مُسَاقَاةً، وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْكَرْمَ مُعَامَلَةً، وَفِيهِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ بِالنِّصْفِ أَيْضًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْأَخْبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُمَا يَقُولَانِ: الْمُزَارَعَةُ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُعَامَلَةُ كَذَلِكَ فَتَصِحُّ كَالْمُضَارَبَةِ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّبْحَ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِالْمَالِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا فَتَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَمَلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُمَا بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَبَذْرٍ وَأَرْضٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، أَوْ نَخِيلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ أَنَّ الْغَاصِبَ لِلْبَذْرِ أَوْ الْأَرْضِ إذَا زَرَعَ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ وَجُعِلَ الزَّرْعُ حَاصِلًا بِعَمَلِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَاحِبُ الْمَالِ قَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لَا يَجِدُ مَالًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، فَيَجُوزُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا، فَكَذَلِكَ هُنَا صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ قَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ وَالْعَامِلُ لَا يَجِدُ أَرْضًا وَبَذْرًا لِيَعْمَلَ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً فِي الْخَارِجِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا، وَفِي هَذَا الْعَقْدِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَيَجُوزُ بِالْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَاهُ كَالِاسْتِبْضَاعِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُعَامَلَةَ وَلَمْ يُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ فِي الْمُعَامَلَةِ الشَّرِكَةَ فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ وَهُوَ النَّخِيلُ، كَمَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَ الشَّرِكَةَ فِي الْفَضْلِ دُونَ أَصْلِ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا دَفْعَ الْبَذْرِ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، فَجَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ مَقْصُودًا لِهَذَا وَلَمْ نُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ إلَّا تَبَعًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي ضِمْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الشَّيْءِ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا

الصفحة 17