كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 23)

كَالْوَقْفِ فِي الْمَنْقُولِ، وَبَيْعِ الشُّرْبِ وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ دَفْعِ الْغَنَمِ مُعَامَلَةً بِنِصْفِ الْأَوْلَادِ أَوْ الْأَلْبَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الزَّوَائِدَ تَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِ الرَّاعِي وَالْحَافِظِ فِيهَا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الزِّيَادَةُ بِالْعَلْفِ وَالسَّقْيِ، وَالْحَيَوَانُ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَيْسَ لِعَمَلِ الْعَامِلِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِي عَامَّةِ الْبُلْدَانِ أَيْضًا، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ الْغَاصِبُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الزَّوَائِدِ، فَأَمَّا هُنَا فَلِعَمَلِ الزَّارِعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْصِيلِ الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ لِعَمَلِ الْعَامِلِ مِنْ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ تَأْثِيرٌ فِي جَوْدَةِ الثِّمَارِ؛ لِأَنَّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْحَشَفِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ وَلَمْ نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ فِي الزَّوَائِدِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَدُودِ الْقَزِّ وَالدِّيبَاجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ فِي وُجُودِهَا خَطَرٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ، وَالِاسْتِئْجَارُ بِمَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الْإِجَارَةِ بِالْخَطَرِ، وَالِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، ثُمَّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ يَكُونُ فَاسِدًا، فَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ سَنَدُهُ الْأَثَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَبَيَانُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِمَا سَمَّى لِصَاحِبِهَا مِنْ الْخَارِجِ، وَفِي حُصُولِ الْخَارِجِ خَطَرٌ وَمِقْدَارُهُ مَجْهُولٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا إجَارَةً لَا شَرِكَةً أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِ الْآخَرِ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَالِ، وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا اللُّزُومُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَاشْتِرَاطُ بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِإِعْلَامِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنَا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ " وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ " وَكَمَا وُجِدَ الْعُرْفُ هُنَا فَقَدْ وُجِدَ الْعُرْفُ فِي دَفْعِ الدَّجَاجِ مُعَامَلَةً بِالشَّرِكَةِ فِي الْبَيْضِ، وَالْفُرُوجِ، وَفِي دَفْعِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مُعَامَلَةً لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ وَالسُّمُونِ وَفِي دَفْعِ دُودِ الْقَزِّ مُعَامَلَةً لِلشَّرِكَةِ فِي الْإِبْرَيْسَمِ، وَمَعْنَى الْحَاجَةِ يُوجَدُ هُنَاكَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْحَاجَةِ فَهُنَا كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ الْعَقْدِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ

الصفحة 18