كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 27)

بِالْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَاهُنَا وَالْأَدَاءَ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ الْأَدَاءِ مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ.

وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إلَى الْقَاضِي سِنِينَ، ثُمَّ ارْتَفَعُوا قَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا»، وَهَذَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّسَبُّبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَفِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِيهَا أَوَّلًا.

وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ خَاصَمَهُ إلَى قَاضِي بَلَدِ كَذَا فَقَامَتْ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَصَدَّقَهُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبَعْدَ تَقَرُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ أَصْلًا فَيَقْضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَتَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حِصَّةِ عَوَاقِلِهِمْ يُقِرُّ عَلَيْهِمْ فَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدَ الْعَوَاقِلِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ بِزَعْمِهِ إلَى عَاقِلَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِذَا تَوِيَ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِجُحُودِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْكُلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا إذَا تَوِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قُلْنَا: هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَصْلُهُ دَيْنًا لِدَفْعِ التَّوَى عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ وَالْعَمْدُ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ يَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي لِقَوْلِهِ

الصفحة 131