كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 27)

الْقَاضِي عَلَى مَا قَرَّرَنَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ وَبَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّمَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَهْلُ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ حِصَّتُهُ؛ لِأَنَّ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَعَطَاؤُهُ مِنْ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ عَطَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يَعْقِلُوا مَعَهُمْ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَلَا يُشْبِهُ قِلَّةَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ تَحَوُّلُ الرَّجُلِ بِعَطَائِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يُضَافُونَ إلَيْهِمْ عَاقِلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذِهِ عَاقِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَتْبَاعِ لَهُمْ فَلَا تَتَبَدَّلُ الْعَاقِلَةُ بِاعْتِبَارِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّمَّ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَفِي حُكْمِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْقَضَاءِ.

وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ فَقَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى تَحَوَّلَ عَنْ الْكُوفَةِ وَاسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ إذَا كَانَ يَسْكُنُ مِصْرًا فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ ذَلِكَ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَطَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إذَا الْتَحَقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَجْنِهَا الْعَاقِلَةُ، وَإِنَّمَا جَنَاهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قُلْنَا تَتَحَوَّلُ بِتَحْوِيلِهِ إلَى دِيوَانٍ آخَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَكَانَ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ حَالًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَفِي اعْتِبَارِ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تُوجِبُ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.

وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ أَوْ الثُّلُثَيْنِ أَوْ لَمْ يُؤَدُّوا أَشْيَاءَ حَتَّى جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ

الصفحة 134