كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 27)

عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ حَتَّى عَتَقَ الْأَبُ، فَإِنَّ الْقَاضِي يُحَوِّلُ وَلَاءَهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا فِي النَّسَبِ، ثُمَّ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ الَّتِي قَدْ جَنَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا يُحَوِّلُهَا عَنْهُمْ.

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ عِتْقِ أَبِيهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ أَبِيهِ، وَمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ إنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَبُوهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ فَهُوَ الْخَصْمُ بِالْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ يُبْنَى عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَابْنِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ حَدَثَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ أَنَّهُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي أُمِّهِ وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ الْمَيِّتَ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْأَدَاءِ بَلْ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَهَا هُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ إنَّمَا يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَتْ عَاقِلَتُهُ فِي الْوَقْتِ قَوْمَ أُمِّهِ.

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مُسْلِمَةً مَوْلَاةً لِبَنِي تَمِيمٍ جَنَتْ جِنَايَةً أَوْ حَفَرَتْ بِئْرًا فَلَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارٍ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ فَمَاتَ قَضَى بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ لَهَا وَلَاءٌ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ الْحَفْرِ فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْوَلَاءِ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَّلَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْحَالَةِ الْأُولَى يَعْنِي أَنَّ حَالَهَا تَبَدَّلَ بِالسَّبْيِ وَالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي حُكْمِ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِيَةِ وَعَاقِلَةُ الْجَانِيَةِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَمَّا هَمْدَانُ فَعَاقِلَةُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَ حَالُهَا حِينَ صَارَتْ فِي حُكْمِ امْرَأَةٍ أُخْرَى.

حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً عَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الَّذِي وَالَاهُ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فِي حُكْمِ عَقْلِ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفِعْلِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى أُسِرَ أَبُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَعْتَقَهُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَ لِأَبِيهِ وَلَاءُ عِتْقٍ لَا يَبْقَى وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي حَقِّهِ بَلْ يُلْغَى حُكْمًا وَتَأَكُّدُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الثَّابِتِ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الَّذِي كَانَ وَالَاهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي الْأَبِ بِشَيْءٍ فَلَا تَزُولُ تِلْكَ الْجِنَايَةُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ بِسَبَبٍ

الصفحة 137