كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 27)

جَدِيدٍ، وَهُوَ إعْتَاقُ الْأَبِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ أَبُوهُ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي وَالَاهُ دُونَ عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَالْخُصُومَةُ فِي سَبَبِهِ مَعَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ.

ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا حَتَّى قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى وَالَى رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْجِنَايَتَيْنِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيُجْعَلُ وِلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَبْطُلُ مُوَالَاتُهُ مَعَ الَّذِي وَالَاهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا جَنَى جِنَايَةً تُعْقَلُ وَجَبَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَتَأَكَّدَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَلَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ أَحَدٍ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى بِسَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا فَلَمْ تَقَعْ الرَّمْيَةُ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَتْ فَقَتَلَتْ رَجُلًا كَانَتْ مُوَالَاتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ جَانٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْي حَتَّى لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ تَنَاوُلُهُ، وَإِذَا كَانَ بِالرَّمْيِ جَانِيًا وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ تَأَكَّدَ بِهِ الْوَلَاءُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا أَحَدٌ حَتَّى وَالَى رَجُلًا، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ، فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَوَلَاءُ الَّذِي وَالَاهُ صَحِيحٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى قَبْلَهُ مِنْ الرَّمْيَةِ وَالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَفْرِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ يَجِبُ بِهَا أَرْشٌ حَتَّى يَعْطَبَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ وَالرَّمْيَةُ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْهُ، فَإِنَّمَا وَالَاهُ وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ وَبَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الرَّامِيَ مُبَاشِرٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَاشَرَةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِالرَّمْيِ مُلْتَزَمٌ الْقَوَدَ إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْكَفَّارَةَ إذَا كَانَ خَطَأً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَانٍ حِينَ رَمَى وَأَمَّا الْحَافِرُ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ وَلَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ، ثُمَّ دِيَةُ هَذَا الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ عَلَى مَنْ وَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْوُقُوعِ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ، وَمَنْ وَالَاهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ مُوجِبَ أَفْعَالِهِ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ وَلَاؤُهُ وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ الْوَلَاءِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ قُلْنَا: إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ.

وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُوَالِي رَجُلًا، ثُمَّ يَجْنِي أَوْ يَرْمِي أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِوَلَائِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى تَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ مَوْلَى لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ

الصفحة 138