كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 28)

فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَدُفِعَتْ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا، وَهُوَ مِلْكُ الْمُوصِي.
وَلَوْ فَدَاهَا الْوَرَثَةُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ فِي الْفِدَاءِ وَتُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا طَهُرَتْ عَنْ الْجِنَايَةِ وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ مَحَلًّا لِوَصِيَّتِهِ وَالْوَرَثَةُ مَا كَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْفِدَاءِ فَكَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسَمَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي حُكْمًا فَكَأَنَّهُمْ فَدَوْهَا مِنْ الْجِنَايَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ حَالُهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ وَلَدَتْ النَّسَمَةُ أَوْ الْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَإِنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْمَيِّتِ الْوَلَاءَ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْمَيِّتُ وَلَاءَ الْأَمَةِ لَا وَلَاءَ وَلَدِهَا وَالْأَمَةُ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُفْصَلُ مِنْهَا الْوَلَدُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَهَا لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّسَمَةُ وَالْأُمُّ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ تُعْتَقْ بِذَلِكَ حَتَّى تُعْتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْوَصِيَّةِ يَمْنَعُ انْتِقَالَهَا إلَى الْوَارِثِ بَلْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ إذَا عَتَقَتْ عَنْهُ.
وَلَوْ أَعْتَقَهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ الْعِتْقُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْمَيِّتِ وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ فِي عَيْنٍ بِجِهَةٍ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ يَقَعُ عَنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ وَتَصْرِيحُهُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِي لَمْ تَكُنْ مُدَبَّرَةً، وَلَكِنَّهَا تُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَمَاتَ الْقَائِلُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ فِي حُكْمِ الْمَالِكِ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بَدَلَهَا وَزَوَائِدَهَا وَكَسْبَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ مَالِكًا فِيمَا فِيهِ إبْطَالُ وَصِيَّةِ الْمُوصِي، فَأَمَّا فِيمَا فِيهِ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ فَيُجْعَلُ الْوَارِثُ كَالْمَالِكِ فَيَصِحُّ مِنْهُ تَعْلِيقُ عِتْقِهَا بِمَوْتِهِ أَوْ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُجْعَلُ كَالْمُنَجَّزِ لِعِتْقِهَا فَيُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ إذَا عَلَّقَ عِتْقَهَا بِالشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ التَّفْوِيضِ وَالْمُفَوَّضُ إلَيْهِ يُنَجِّزُ الْعِتْقَ وَالْمَأْمُورُ بِالتَّنْجِيزِ إذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِلًا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا الْوَارِثُ: أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْتِ فَقَبِلَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا تُعْتَقُ بِجِهَةِ الْوَصِيَّةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ تُعْتَقَ نَسَمَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ فَإِذَا أَوْصَى كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ كَالتَّطَوُّعَاتِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ أَوْ بِعِتْقِ أَمَةٍ لَهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَجَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً فَالْأَرْشُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي كَوْنِهِ

الصفحة 19