كتاب المبسوط للسرخسي (اسم الجزء: 28)

بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وُكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ إنَّمَا نُثْبِتُ الْوَصِيَّةَ لَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالْإِيصَاءِ إلَى الثَّانِي يَقْصِدُ إشْرَاكَهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَمْلِكُ إشْرَاكَ الثَّانِي مَعَهُ، وَقَدْ يُوصِي الْإِنْسَانُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْمَامِ مَقْصُودِهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ عَجْزُهُ عَنْ ذَاكَ فَيَضُمُّ لَهُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمَا مَعًا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ فَإِنَّ رَأْيَ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ هُنَاكَ.
وَإِذَا عَجَزَ الْوَكِيلُ يُمَكِّنُ الْمُوَكَّلَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ ضَمَّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ إنَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِي مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّ الْآخَرَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ، وَالْقَاضِي قَائِمٌ مُقَامَ الْمَيِّتِ فِي النَّظَرِ فَيُعْجِزُهُ بِنَفْسِهِ عَنْ النَّظَرِ فَيَضُمُّ إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنَّمَا كَانَ الْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَ مُتَصَرِّفِينَ فِي حُقُوقِهِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ نَصَبَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُوصِي مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْضَى بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِي لَمْ يَرْضَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ.
وَإِذَا مَاتَ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ بِحَالٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ بِوَصِيَّةِ الْأَوَّلِ التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِعَقْدٍ فَهُوَ كَالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْوَكِيلُ، ثُمَّ الْوَكَالَةُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا مَاتَ وَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ سُقُوطِ وِلَايَةِ وَصِيٍّ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوصِي حُكْمًا كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ حُكْمًا وَفِقْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوصِيَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ فِي الرَّأْيِ يَتَفَاوَتُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوَكِّلُ الْوَصِيُّ أَيْضًا عِنْدِي، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى الْغَيْرِ كَالْجَدِّ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ فِي الْمَالِ إلَى الْوَصِيِّ فِي النَّفْسِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ

الصفحة 22