كتاب في الميزان الجديد

الممتازة، ويبصرها بطرق حياتهم، حتى أصبحت متعة للأبصار وبهجة للنفوس. وكان بجماليون لا يحب فيها أول الأمر غير كبرياء الخالق، كبرياء الفنان الذي يحب نفسه فيما يخلق، ولكن نجاح الفتاة وإقبال الرجال عليها لم يلبث أن نفذ إلى غرائز بجماليون كرجل، فأخذ يحب الفتاة لنفسها، يحبها على غير وعي منه حتى كان يوم أدرك فيه مدى هذا الحب، أية حياة تملأ المسرحية؟ وأية إنسانية تجري في نواحيها؟ أي تميز للشخصيات؟ وأية حركة متدفقة في المواقف والأوضاع؟ ثم أية وحدة في البناء؟!
أين كل هذا من الأفكار المجردة؟ وأين كل هذا من مشكلة حياة الفنان المبسطة التي لا نكاد نراها إلا في خطوط هندسية ومقابلات بين الحياة والفن، بين المرأة والتمثال، ومن حولها شخصيات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج أو بعرائس الخشب التي تحركها على مسارح الأطفال خيوط تجتمع كلها إلى يد واحدة، هي فكرة الفن والحياة وما بينهما من تعارض لا أكاد أفهمه في فن يسعى إلى خلق الحياة؟! وكيف يخلقها وهو يجهلها؟! يقول ديمهاميل لفتاه: "لا تنسَ أن تعيش. عش أولا. عش بكل قواك ثلاثة أشهر لتكتب ثلاثة أيام، واكتب ثلاثة أيام لتملأ ثلاث صفحات".
وإلى هذا النوع من الأدب الذي تشيع فيه الحياة يتجه إيماني بحيث لا أطمئن إلى الأدب المجرد، أدب الفكرة الذي يصدر عنه الأستاذ الحكيم، فهو أدب سهل.
نعم من السهل أن تتخذ من أشخاص الأساطير رموزا نحركها للتدليل على فكرة ما، وما هذا النوع رواية شيللي عن "بروميثيوس الطليق" ورواية أندريه جيد عن "بروميثيوس غير المحكم الوثاق"، ففي كل منهما علاج لأفكار. عند شيللي صراع بين الخير والشر، بين الآلهة والإنسان. وعند جيد بين الضمير والجسد، بين الهيئة الاجتماعية والإنسان. ولكن ثمة أشياء تشفع لشيللي وجيد. فشيللي شاعر، كتب مسرحيته شعرا وفيها من جلال الصور وندرتها وقوتها وجمالها ما يثير الخيال ويلهب النفس. وجيد مفكر عميق نافذ، رمزيته إشارات دالة وإيحاء بعيد، نلهث في متابعته. والذي لا شك فيه أن إيجاد الشخصيات ونفث الحياة فيها وتركيز طبائع البشريين بين حناياها بما تحمل تلك الطبائع من مصائر وآلام -أمر أشق وأروع وأجمل وأضمن للخلود من العبث بالأفكار، وبخاصة إذا كانت أفكارًا مطروقة قريبة المنال.
وإذا كانت الأديب لا ينجح في أن يثيرني ولا في أن يرسم أمام خيالي نماذج لي ولك، أتعرف فيها على ناحية من حياتي أو اتجاهات نفسي أو موضع من

الصفحة 16