كتاب في الميزان الجديد

"المكلف بقيادة الأرواح الأثيمة إلى الجحيم". والذي يعرفه كافة المثقفين عنه -ومعرفتهم هي الصحيحة- أنه "قائد الأرواح إلى العالم الآخر" وهو البسيكوبومبوس Psychopompos وهذه اللفظة اليونانية تترجمها القواميس الفرنسية عادة بقولها Conducteur des ames aux enfers ومعنى هذه الجملة هو ما ذكرت، فمصدر خطأ الأستاذ محمود طه ترجمته عن الفرنسية فيما أظن ترجمة غير صحيحة؛ إذ إن لفظة enfers في الجمع ليس معناها الجحيم، بل العالم الآخر إطلاقا، وإنما المفرد هو الذي يفيد هذا المعنى، وحيث فهم الأستاذ من كلمة enfers معنى الجحيم كان من السهل أن يضيف كلمة "الآثمة" للأرواح ليستقيم الكلام، ونحن لا نقف عند هذه الغلطة، فهي مهما تكن تافهة، ونحن الآن نتحدث عن محمود طه الشاعر لا محمود طه العالم بالفرنسية، أو الباحث في الأساطير، ومن العدل ألا نحاسبه إلا عن شعره فهو عبقريته وهو ميدانه.
ومع ذلك فثمة مسألة أخطر، فشاعرنا يريد أن يتخذ من أساطير اليونان مادة لشعره كما يتخذ لشخصياته أسماء إغريقية، وإذن فمن حقنا أن نناقش طريقة فهمه لليونانيات؛ وذلك لأنه إذا جاز أن نتساهل في شيء فإنه لا يمكن أن يكون هذا التساهل في فهمنا للمادة التي نصدر عنها؛ وفي جملة الشاعر الخاطئة ما يدل على أنه لم يأخذ نفسه بعناء دراسة أساطير اليونان ومعتقداتهم الدينية كما يجب؛ وذلك لأن فكرة الإثم والجحيم بل فكرة المصير بعد الحياة لم تعرفها الديانة الأولمبية، ولم تظهر في بلاد اليونان إلا بتأثر المعتقدات الأجنبية التي أتتها من مصر وسوريا وبلاد الشرق الأخرى، وهي لم تتسلل إلى ديانة زيس التي ينتمي إليها هرميس، وإنما ظهرت في شعائر أنصار أورفيوس وفيثاغورس ثم في أسرار إلزيس Eleusis وهذا تيار ظل بعيدا عن أساطير اليونان وديانتهم التقليدية، وفيه فقط نجد فكرة الإثم، وفكرة الثواب والعقاب ومصير الأرواح، وأما هرميس فكان يقود كل الأرواح إلى العالم الآخر المظلم، الذي نرى الجميع يرهبونه.
وهذه الملاحظة تقودنا إلى منهج الشاعر عامة وطرق علاجه لموضوعه، ففي كتابه ما يدل على العجلة وعدم الروية، سواء في وحدته أو في تفصيله، بل في صياغته الشعرية ذاتها، وهذا اتجاه يجب أن نقاومه لما يجره من جنوح إلى الإغراب والغموض والتفكك وما يسببه من إفساد للنغمات وهلهلة في الاطراد وضعف في السبك.
وفي الحق ما هي "أرواح وأشباح" وعلامَ يدل هذا العنوان الجميل؟ أهي حقا

الصفحة 27