كتاب في الميزان الجديد

ولكني أسارع فأقرر أن محمود طه شاعر رغم كل شيء، وما عليك إلا أن تنظر في أسلوبه فترى أن الصيغ النثرية في شعره كقوله: "وتنطق بالمثل الثائر"، "سيسلكه الفن فيمن سلك"، "يبقى صداها إذا ما هلك"، "فلا كان بعثا ولا قدرا" و"آخرة العاشق المنتحر". "وأضحيت شيئا ككل الرجال وأضحيت شيئا ككل النساء"، وأمثال ذلك قليل بالنسبة لأسلوب العقاد الذي لا أرى فيه إلا القليل من الشعر.
ومن غريب الأمر أن يقع محمود طه، في نفس السخف الذي وقع فيه العقاد! فالعقاد يدعونا في أول قصيدته إلى أن نخف مهرولين "لنسمع أعاجيب العبر"، وكذلك يفعل محمود طه، فيختم مقدمته بقوله:
هو البعث فلاستمعوا واقرءوا ... حديث السماء عن الشاعر
فيا للعجب! متى اهتم الشعراء إلى هذه الدرجة بأن يستمع إليهم أحد أو لا يستمع؟ أليس في ذلك ما يضحك؟ وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة! فالذي عرفناه ورأيناه عند الشعراء القدماء، لا المحدثين، هو أن يتجه الشاعر أو الروائي إلى القراء، بل على الأصح إلى المشاهدين في المسرح؛ ليكسب انتباههم وعطفهم عليه، وهذا عندما كانت تقام مسابقات بين الشعراء. وأضيف إلى ذلك أن هذه العادة لم تكن معروفة إلا في الكوميديا، فأنت تجد بلوتس Plautus اللاتيني مثلا يتجه في البرولوج إلى الحاضرين يخاطبهم ويدعوهم إلى الحكم له، كما يمهد لسماع مسرحيته التي يلخص لهم وقائعها. وكذلك كان يفعل شعراء الإغريق القدماء، فتجد أرستوقانيس يخاطب الجمهور في الجزء من الكوميديا المسمى "البراباز" Parabasis وفي حديثه عادة ما يضحك ويؤدي إلى الأغراض التي ذكرتها.
والآن ماذا يقصد العقاد ومحمود طه بهذين البيتين؟ إن كانا قد قصدا إلى الإضحاك فقد نجحا، وذلك عن نفسي، فقد خيل إلي أني في سامر أو عند "حاوى".
وهذا يؤدي بنا إلى مسألة خطيرة، هي ما يجب أن نعلمه جميعا من حاجاتنا إلى التواضع الاختفاء قليلا، فالقارئ لا يعنيه -فيما أظن- أن يعرف الكثير عن عبقريتنا وتمدحنا بها، وإعلائنا لشأنها، وتقديرنا لما يصدر عنها من شعر، ويا ويل عبقرية لا تعرف إلا مدح نفسها.
وبعد، فنحن في حاجة ماسة إلى أن نحارب عدة عادات سخيفة عندنا، منها أن ينفق الشاعر نصف قصيدته اعتذارا عن تأبي الشعر عليه، ألا فليسكت إن لم يكن لديه ما يقول، أو شكواه من ضيق الألفاظ عن إحساسه، أو الإشادة بملكته وتخليده للناس ولنفسه. وكذلك يفعل الكثير من خطبائنا، وهذه أخطاء في الذوق أضخم من أن نحتاج إلى الوقوف عندها.

الصفحة 29