كتاب في الميزان الجديد

ولكن ثمة ما هو أخبث من ذلك؛ لأنه أرق وأرهف، فلقد رأينا الأستاذ الحكيم يعالج في "بجماليون" مشكلة حياة الفنان، وهنا نحن اليوم نرى محمود طه يتحدث أيضا عن الفنان وعلاقته بالمرأة؛ إذ إن هذا هو جماع "ملحمته". وتلك ظاهرة مخيفة، فهي تدل على أن أدباءنا أكثر وعيا بفنهم مما ينبغي، مع أن مشكلة الفن ليست مشكلة إنسانية عامة.
ثم إني وإن كانت لا أنكر على الأستاذ محمود طه أن يجمع في نظرته إلى الفن والحياة، بين النظرة الرومانتيكية التي تجعل من الفنان "صدى عابرا وروحا مجنحة الخاطر" وبين النظرة الحسية التي ترى في فمي الحبيبين "شقين من قبس مستعر" وتجعل الشاعر يشم في أنفاس فتاته "رغبة يهتف بها جفنها المنكسر"، "وتضح به الشهوة الجائعة" "فيشم رائحة الجسد المحترق" على نحو ما كان يفعل بودلير الذي تتلمذ له محمود طه على ما يظهر في هذا الاتجاه. أقول برغم أنني لا أنكر عليه شيئا من هذا فإنني كنت أرجو أن ينجو بنا من الابتذال، فمعظم معانيه مطروقة، والجمل الجميلة التي ذكرتها هي كل ما استطعت التقاطه من أقواله الكثيرة في هذه الأغراض.
ونحن بعد نستطيع أن نغتفر لمحمود طه ولغيره من الشعراء ابتذال معانيهم، فالمعاني أشياء تافهة في الشعر، ولكن على شرط أن تخلق الصياغة من هذه التوافه قيما فنية، على نحو ما فعل أبو تمام مثلا من المعنى القريب "معنى نيل الصحراء من جسم البعير" قوة شعرية دافقة رائعة بقوله:
رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه
وأمثال ذلك مما يحتاج إلى صبر على الصياغة وقدرة عليها لم يتوافرا دائما لشاعرنا.
انظر إلى قوله مثلا عن حدق إحدى الحوريات: "تؤجان بالنظرة الرائعة"، ثم تساءل: أين تقع "الروعة" من "الأجيج"؟ وهل لهذا التنافر من سر غير العجلة، أو قوله عن الشاعر "ألم يبعد الحسن في زهرها؟ " وما في ورد الحبيبة من ابتذال ذهب بجمال صدر البيت؟ "ألم ينسم الخلد من عطرها؟ " ما هذا الحشو الذي يحرص على ذكر الزهر بعد العطر؟
ولقد نحس من حين إلى حين أن الشاعر يصدر عن مذهب أدبي بعينه، وهذا جميل ولكن على أن يصدقنا الذوق؛ فبودلير مثلا يكثر من الجمع بين المتناقضات كقوله: "النور القاتم"، وما شاكل ذلك، ويأتي شاعرنا فيقول:

الصفحة 30