كتاب في الميزان الجديد

وأحفر بعد الردى قبره ... هناك على قمة الهاوية
وأغرس في قبله زهرة ... من الشر رواية نامية
ونحن نترك "زهرة من الشر" فقد قالها بودلير، بل هي عنوان ديوانه، ولكن ما "قمة الهاوية"؟ وهل لها صورة واضحة في خيال الشاعر أم هي صنعة المذهب؟
ولقد يحدثنا فرلين حديثا سهلا ساذجا مؤثرا صادقا عن بؤسه، وقد أخذت تتقاذفه بقاع الأرض "كورقة ميتة"، ولقد يخبرنا "بانتحاب قيثارة الخريف" في أذيته فيأتي شاعرنا يقول:
إذا ما هوت ورقات الخريف ... أحس لها وخزات السنان
وقيثارة الريح ما لحنها ... سوى الريح في جفوة أو حنان
يالله! ولِمَ هذا التهويل والجري وراء المعاني المقتسرة البعيدة الخالية من كل صدى إنساني؟ إن في ورقة فرلين الميتة ما يجز في نفسي حزا لا يستطيعه سنان محمود طه، وفي انتحاب قيثارة الخريف من الأسى ما يعز على جفوة رياح محمود طه وحنانها.
وبعد، فنحن في حاجة إلى أن نهمس، نحن في حاجة إلى التواضع، التواضع الإنساني الأليف القريب إلى النفوس، نحن في حاجة إلى أدب إنساني صادق مخلص؛ لأن نفوسنا في ظمأ إليه. ألا فلنعد إلى قلوبنا ولنحملها على أن تقول في بساطة ما تجد وسوف نرى جمال حديثها. ولنتخذ الأساطير مادة لإحساسنا وهياكل لصورنا الفنية، ولكن في أمانة وفهم ونزول على معانيها، وأما الطنطنة، وأما إقحام أنفسنا وعرضها في كل حين على القارئ حتى يمل وينفر، وأما الحديث عما لا نجيده فلا.
وبعد فعند محمود طه أشياء جميلة حقا ولكنها قليلة، وأنا على تمام الثقة من أنه شاعر موهوب، وأنه يستطيع خيرا من هذا، ولكن على شرط أن يتخلى عن الإغراب وأن ينسى نفسه قليلا، ثم لا بد له من القسوة على نفسه وعدم التساهل في الصياغة؛ فثمة حشو في بعض الأبيات وثمة هلهلة، وثمة محاولات لتضخيم العبارة عن أشياء تافهة، والذي لا شك فيه أن شاعرا يقول:
وهامت على ظمأ روحها ... وكم ملئوا الكأس من خمرها
قادر على الشعر الجيد، فهل تراه فاعلا؟ ذلك ما نرجوه ليكون شعره حجرا في أدب مصري يستطيع حقا أن يثبت للأدب الأوربي الذي لا بد لنا من مثله.

الصفحة 31