كتاب في الميزان الجديد

ولنترك إذن الشيخ "عاد" فصورته ممحوة المعالم وقسماته الروحية لا تجد لها في نفوسنا مستقرا من اللحم والدم، ولكن للنظر إلى نزلاء الفندق الذين اشتركوا في "الحكاية". فثمة "رجل سوري مترهل الجسم، له رقبة مجعدة ناحلة كرقبة النسر الهرم اسمه "كنعان" يدعي أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون باستانبول.. نراه دائما في الحديقة حيث يفترش العشب الأخضر ويتوسد حزمة من الهشيم ويمضي يدخن النارجيلة في اطمئنان". وهذه الصورة بل لوحة لا يمكن أن يخطئها أحد. وهبنا لاقينا الرجل بحديقة الفندق أتحسب أننا لا نعرفه للحظتنا؟ وهل بعد "رقبته المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم" من أمارة مميزة؟ هذه قسمة من الواقع. طوبى لمن يقع على مثلها. ما أحدها ملاحظة وما أقواها عبارة! وكنعان "يدعي" أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون بـ"استانبول" ولقد يكون هذا صحيحا؛ لأن الراوي لم يجزم بشيء، ونحن أيضا لا نستطيع أن نجزم بشيء، ولكن كنعان على أي حال أستاذ "فريد" "أصيل" "متفيقه" شخصية تدعو إلى الابتسام، وقد عالجها المؤلف في عبث Humour نافذ. ألا تراه يقص علينا كيف أن "حبيبا" الخادم لا يجد حرجا في أن يأخذ من الأستاذ كنعان صحفه خلسه، ولم لا و"حبيب" يلاحظ أن تلك الصحف تظل في لفائفها أبد الدهر، وأن الأستاذ عندما يضيق بها ذرعا يرصها تحت السرير لتكون طعمة للفيران..
لا شك في أن "حبيبا" مصيب عندما يرى أنه أولى بها من الفيران. ولقد يتحدث الراوي مع الشيخ عاد و"مس إيفانس" السيدة الإنجليزية -التي سيأتي ذكرها عما قريب- عن قصر حديث منحوت في الجبل، فينحي الأستاذ كنعان فمه عن مبسم النارجيلة ويقول: "كان يجدر بكم أن تسألوني في هذا الأثر العظيم. إنه من بقايا الرومان، وعمارته بيزنطية بحتة، والذي شيده الإمبراطور يونان.." فتبتسم لهذا العلم الغزير الذي يجمع بين الرومان والطراز البيزنطي وإمبراطور يونان! ولا عجب، فالأستاذ كنعان مثال خالد للعالم المتفيقه المغرور الكسول المضحك، الأستاذ كنعان هو ما يسمونه بالفرنسية Cuistre لوصف مثل هذا الأستاذ الجليل. وابتسامنا من الأستاذ كنعان لا يلبث أن ينقلب ضحكا صراحا عندما نراه يحدث الراوي عن تلك المنطقة الجبلية:
"إنك لو سألت حصباء هذا الوادي، واستجوبت صخور ذلك الجبل، لروت لك ما عانيت من مشقة في بحثي واستقصائي، أنت تجهل بلا ريب أني أعد محاضرة في طبقات أرض هذه المنطقة وأطوارها في التاريخ..".
- بحث ممتع بلا ريب!

الصفحة 34