كتاب في الميزان الجديد

دليل الرحلة إلى القصر، نراه لأول مرة في حديقة الفندق، حيث كان يجلس الراوي مع "مس إيفانس"، وإذا "بحبيب" الخادم ينبئ بقدومه، ويسمح له بالمجيء، وغاب "حبيب" هنيهة ثم عاد ومعه رجل منبسط القامة، عريض الجوانب، مكتنز العضلات، له شارب غليظ كأنه مصنوع من الأبنوس، ورقبة كأنها الجذع العتيق.. ينظر إلينا نظرات حادة كأنه يزدرينا! واقترب الرجل من "مس إيفانس" وحياها، فأحسنت لقاءه، ثم التفتت نحوي "نحو الراوي" وقالت وهي تتلطف في بسمتها: أقدم لك دليلي الذي أعتمد عليه في ارتياد هذه المنطقة.. ودنا الرجل مني وصافحني في شيء من التحفظ، وقال بصوت خشن وهو يفتل شاربه، أو بالأحرى يداعبه مزهوا: "محسوبك مجاعص ابن الجبل.. أعرف هذه الجهة ومخابئها وطرقاتها، وكما أعرف أصابع يدي.. يمكنني -صيفا وشتاء- أن أسير في الليل، كما أسير في النهار، لا تعوقني ظلمة ولا رياح ولا لصوص ولا ضوار ولا ... "، ونحن وإن كنا لن نستطيع أن نميزه عندما نذهب إلى لبنان -إن قدر لنا ذلك- بنفس السهولة التي سنميز بها "الأستاذ كنعان" ذا الرقبة المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم، إلا أننا فيما أظن سننجح في التعرف إليه خصوصا إذا ذكرنا أخلاقه.
فهذا المسكين رغم مكابرته الساذجة قد انتهى بأن أظهر هلعا واضحا عندما وصلت الجماعة في رحلتها في الجبل إلى مفاوز مخيفة، ولعل له العذر في ذلك؛ فقد تكالبت عليه المحن فانهارت به الصخور مرة وجرح، ولولا شجاعة "الشيخ عاد" الذي تدلى بالحبل لينقذه من الهاوية التي سقط فيها لمات، ومع ذلك فقد انتهى به الأمر إلى الموت في سقطة أخرى في القصر نفسه، وفي ذلك اليوم لم تُجْدِ شجاعة الشيخ عاد شيئا، فإنه عندما نزل بالحبل إلى الهاوية التي سقط فيها مجاعص وجده جثة هادة، مهشم الرأس، فعاد به ودفنوه، وكللت "مس إيفانس" قبره بالورد. وقد حزنا لموته؛ لأن الراوي نفسه قد حزن هو ورفيقاه إذ عثروا وهم عائدون ببغلتين كاللتين كانتا معهم في الذهاب، واللتين اضطروا إلى التخلي عنها لضيق المفاوز، وتأملوا في البغلتين فوجدوهما محجلتين كبغلتيهم، ولكن أنَّى لهم أنَّى يجزموا بشيء، وهل كان يستطيع أن يجزم بشيء كهذا غير المسكين "مجاعص"؟ وقال الراوي: "صحيح هما محجلتان.. ولكن ليس هذا دليلا قاطعا.. لو كان المرحوم "مجاعص" بيننا لأنقذنا من هذه الحيرة بالخبر واليقين".
وبهذه الجملة البسيطة، بهذه الحادثة الصغيرة استطاع الكاتب أن يحيي ذكرى مجاعص في نفوسنا، بل وأن يلونها تلوينا عاطفيا بالغ الرقة، والآن لم يبقَ في "البهو" غير حبيب الخادم و"مس

الصفحة 36