كتاب في الميزان الجديد

إيفانس"، وحبيب خادم ككل الخدم، وإن كان مغرما بالقراءة، وهذا نادر حتى بين الأسياد! وأما "مس إيفانس" فبطلة القصة فيما يظهر، وإن كنت عن نفسي لا أعدل "بالأستاذ كنعان" أحدا، لا لأنه أستاذ فحسب، بل لأنه "الأستاذ كنعان" الذي سأراه أمام بصرى، وسأبتسم، بل قد أضحك كلما ذكرته.
"مس إيفانس" سيدة إنجليزية قليلة الكلام محبة للعزلة، أتت إلى لبنان عقب أزمة نفسية، أوحت إليها بفلسفة عارضة في الحياة، زبد نفضه الألم على السطح.
كانت مثلنا تسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة حتى تكشف لها المجتمع عن حقيقته، وبان لها زيفه وبهتانه.. وثقت بدنيانا هذه فأودعتها أعز ما تملك.. أودعتها قلبها، ولكنها ردت إليها هذا القلب مطعونا.. فكرهت دنيانا..كرهتها!
حب خاب.. مأساة النساء بل والرجال منذ أن وجد الزمن وإلى أن يفنى الزمن. والنفس إذا حزت فيها الآلام حاولت أن تتمثل بأي شيء بالمغامرة مثلا. وهذا ما كان، "فمس إيفانس" قد سمعت بوجود قصر مسحور في الجبل وقد تسقطت أحاديثه فنزعت إلى السير إليه، وكأن مجهولا يناديها منه نداء لاقى صدى بنفسها التي لم يعد يعمرها شيء، فاتسعت لنداء المجهول، وكونت "مس إيفانس" بمحض المصادفة قافلة صغيرة للبحث عن القصر، أفرادها هم من ذكرت: الشيخ عاد، وراوي القصة، ومجاعص، ثم هي وساروا في رحلة شاقة تجدها في القصة، حتى انتهوا إلى القصر، وهنا قد يقول القارئ: ولكن هذه مغامرة خيالية! أبدا فالقصر حقيقة واقعة بناه الشيخ "بشير الصافي" وكان رجلا عظيم السلطان تؤازره عشائر شتى، وكانت له مع الدولة العثمانية مواقف مشهورة، وكان الولاة يرهبون جانبه ويجاملونه ما استطاعوا، ويضمرون له الشر للإيقاع به عند إمكان الفرصة، ولكن فطنته وسعة حيلته جعلته يخشى أن يتنكر له الدهر، فاختار مكانا في ركن يخفيه الجبل يصعب الاهتداء إليه، وشيد فيه قصرا محصنا يعتصم به هو ومن معه إذا اضطرهم الأمر إلى الاختفاء.. و"كان ذلك منذ زمن العثمانيين وأما الآن فقد آل القصر إلى حفيد الشيخ بشير، إلى يوسف الصافي. ولقد كانت لهذا الأخير قصة مؤثرة؛ إذ إنه أحب فتاة وطلبها إلى أبيها، ولكن الأب رفض وهَمَّ بتزويجها إلى رجل آخر، رغم حب الفتاة ليوسف، واتفق الشاب مع حبيبته على أن يقتلها ويقتل نفسه، وفعلا قتلها في ليلة زفافها، وأما هو فقد ضعفت يده عن قتل نفسه، ولئن شاع بين الناس أنه قد انتحر فإن هذا لم يكن صحيحا؛ إذ هام على وجهه وما زال يتخبط في بقاع الأرض حتى انتهى بالوصول إلى قصر جده.. وهناك أقام، مصدر رعب لكل من يدنو من القصر،

الصفحة 37