كتاب في الميزان الجديد

يهيل عليه الصخور أو ينصب له الشرك، حتى شاع وذاع أن القصر مسحور، وكانت بالقصر حدائق دانية الجنان استطاع أن يحيا فيها يوسف ربع قرن بأكمله.
وصلت القافلة إلى القصر بعد أن نجت من حبائل يوسف بحسن توفيق، فقد شاء القضاء ألا يصيب خنجره منهم أحدًا. بينهما استطاع "الراوي" أن يصيبه بطلقة نارية عن غدَّارته، وهنا أخذت "مس إيفانس" تُعنى بأمر يوسف الجريح، ويوسف يهذي فيناديها بـ"صفاء" واهما أنها خطيبته التي كانت تحمل هذا الاسم، وفي ذلك ما يحرك قلب "مس إيفانس" ويرنح خيالها، حتى إذا شفي الرجل وثاب إلى رشده، لم يعد يناديها بهذا الاسم الجميل، وكأنه فطن إلى أنها غير حبيبته التي غادر الأحياء من أجلها. ونحن بعد لا ندري ماذا أحست "مس إيفانس" عندما عرفت تل الحقيقة ورأت يوسف يناديها بـ"مس إيفانس" فهذه أسرار نضيفها إلى غيرها، مما يملأ نفس "مس إيفانس" وإن تكن كلها أسرار واضحة. هل هي إلا فراغ النفس؟ فراغها المؤلم. وأيا ما يكون الأمر فقد ضاقت "مس إيفانس" بالبقاء في هذا المكان الموحش، وأصبحت تقول: "إني أسمى هذه العزلة مرضا اجتماعيا.. لكل امرئ في الحياة رسالة يجب أن يؤديها لبني جنسه. فإذا نكص على عقبيه عد ذلك فرارا من الميدان". وهذا تحول عجيب في فلسفة "مس إيفانس" في الحياة، ولكن ألم أقل لك إن فلسفتها زبد نفضه الألم على السطح؟
وغادرت القافلة المكان عائدة بعد أن فقدت "مجاعص"، ولكن "مس إيفانس" ظلت "تقضي وقتا غير قصير تطيل النظر إلى الجهة التي يقوم فيها قصرنا المسحور.."، وفي اليوم الثالث من الرحلة صحا الراوي من نومه واجتمع بـ"الشيخ عاد" لتناول الفطور، ولكنه لم يجد "مس إيفانس". فسأله الشيخ عاد عنها فلم يجبه.. بل اقتصر على ابتسامة "هادئة مديدة"، فيها معنى الاستسلام والاستخفاف بكل شيء. إلى أين ذهبت؟.. ألم تفهم؟ لقد استجابت لنداء المجهول الذي كانت تبحث عنه. عادت إلى يوسف إن لم يكن بد من الإفصاح. أما ما كان من أمرها بعد العودة إليه، فذلك ما ليس لنا به علم؛ إذا إن الراوي لم يحدثنا عن شيء بعد هذا، ولي ولك أيها القارئ، وسيكون للأجيال المتلاحقة بعدنا أن نفكر في مصير "مس إيفانس" التي ستهز خيالنا لزمن طويل.
ولعل القارئ يعود فيسائلني: هل "مس إيفانس" هذه من الحياة حقا، أم هي خيال شاعر؟ وأنا في الحق لا أكاد أتصور هذه الفتاة العجيبة في وضوح؛ لأن الراوي كان أيضا معجبا بها، بل لقد داعب حبها قلبه فلم يمعن فيها النظر، كما لم يمعنه الشيخ "عاد". وهنا تظهر حقيقة أدبية كبيرة، تفسر لنا كيف أن الأدب الواقعي أمعن في

الصفحة 38