كتاب في الميزان الجديد

يمكن حذفه دون أن يضطرب السياق، فهناك دعاء الكروان، وهو دعاء شعري جميل، تردده آمنة في المواقف الحاسمة، قد هيأ لها المؤلف حضور هذا الطائر كلما اشتد أمر. وهناك وصف الليالي التي أمضتها الأم وبنتاها عند العمدة، وفي هذا الجزء أشياء يمكن أن تستقيم القصة بدونها، كالحديث عن خضرة ونفيسة، فهما وإن تكونا نموذجين لبعض نساء الريف، إلا أنهما لا تلعبان في حوادث الرواية أي دور، وكذلك الأمر في حادثة قتل شيخ الخفراء التي تحلق بهذا الجزء دون أن نتبين لقصصها وجها واضحا، وهناك منظر القتل الذي نجح المؤلف في تصويره، وحلمنا على الإحساس بفظاعته، ثم تصوير هذيان آمنة، وهذا جزء يضعف تأثيره ما فيه من إسراف. وأخيرا تأتي قصة آمنة مع المهندس. ولعل هذا الجزء هو خير ما في الرواية؛ لما فيه من فهم عميق لحقائق النفوس، وبخاصة نفوس النساء.
وإنه وإن تكن وحدة القصة من الأسس المهمة في كل عمل فني، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى تلك الوحدة نظرة واسعة، فلا نردها إلى وقائع الرواية، واتصال بعضها ببعض فحسب؛ بل نمدها إلى الهدف النهائي الذي يقصد إليه كل كاتب، وهو التصوير والتأثير، فالقصاص بتصويره للبيئة التي يحيا فيها أبطاله يعيننا على فهم نفوسهم، وهو بقصصه لطرف من حوادث العنف التي يأتونها يخلق جوا يمهد لما سيقع في القصة ذاتها، وعلى هذا النحو نستطيع أن نفهم ما ساق إلينا المؤلف من أجزاء لم نتبين رابطاتها المباشرة بالقصة.
ولكننا على العكس من ذلك لا نستطيع التسامح فيما يجب أن يتوفر لكل قصة جديدة من مشاكلة للواقع L'illusion du reel، وتلك المشاكلة لا نراها متوفرة في كل أجزاء القصة التي بين أيدينا، وذلك لسببين كبيرين؛ أولهما: طغيان المؤلف على شخصياته، وثانيهما: تحجر أسلوبه في طابع خاص يعرفه الجميع.
لنأخذ مثلا دعاء الكروان: "لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب قدومك وأنتظر نداءك، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك وأسمع صوتك وأستجيب لدعائك. ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!.. لبيك لبيك! أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، أمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع" هذا لا ريب شعر ساحر ما أظن نغماته تفارق الخيال عما قريب.. ألفاظ مجنحة خفيفة عذبة. ولكم من مرة يعود الطائر فتلقاه آمنة بنفس الحديث. ويستمع القارئ لدعائها فكأنما يأوي إلى واحة ظليلة أو يلقى صديقا قديما.

الصفحة 42