كتاب في الميزان الجديد

ولكن دعنا نصم آذاننا قليلا عن سحره لنتساءل عن قائله: أهو حقيقة آمنة، وهي مهما حدثنا الكاتب عن تلقيها العلم مع خديجة عاما بعد عام حتى ألمت باللغة الفرنسية ذاتها، لا نظنها قادرة على أن تدعو الكروان هذا الدعاء الجميل؟
يقول المؤلف الفرنسي المعروف بومارشيه في مقدمة روايته فيجاور: "في إحدى الليالي ونحن بالمسرح قال لي رجل عظيم الذكاء وإن كان يسرف في ادخاره: أرجوك أن تشرح لي لماذا نجد في روايتك كل تلك الجمل المهلهلة التي ليست من أسلوبك؟
- من أسلوبي يا سيدي؟ لو شاء النحس أن يكون لي أسلوب لحاولت أن أنساه عندما أكتب مسرحية، وأنا لا أعرف أتفه طعما من تلك المسرحيات التي نرى فيها كل شيء جميلا ورديا، كل شيء هو المؤلف نفسه كيفما كان، عندما يتملكني موضوعي أستدعي شخصياتي وأضع كلا في مكانه، وأنا لا أعرف ماذا يقولون، وإنما يعنيني ما سيفعلون وعندما يأخذون في الحركة أكتب ما يملونه عليَّ إملاء سريعا، واثقا من أنهم لن يخدعوني. فلنأخذ إذن في فحص أفكارهم لا في البحث عما إذا كان من واجبي أن أعيرهم أسلوبي".
ونحن وإن كنا نقدر ما في أقوال بومارشيه من إسراف أدبي، وندرك أنه ليس من الممكن أن يترك المؤلف أشخاصه يتحدثون كل بلغته وإلا لأسمعوه العجب، ومن بين أبطال القصة التي بين أيدينا مثلا السيد والخادم والقاهري والبدوي والصعيدي والبحراوي، إلا أنه مما لا شك فيه أن في أقوال بومارشيه جانبا كبيرا من الصحة. وأنه لمن واجب القصاص أن يحتال فيوهمنا بأنه قصته واقعية ليكون تأثرنا أتم. ومن وسائل هذا الإيهام -إن لم يكن من أهم وسائله- تنوع الأسلوب وطبيعته وعدم طغيان المؤلف على شخصياته، وفي "ليالي العمدة" أدلة واضحة على صحة ما نقول، فقد وصف الكاتب مثلا موقف آمنة من أختها التي كتمت عنها خبر سقوطها، فأخذت تحتال لتعرف السر دون أن تنجح، وفيما هما في جوف الليل رأت آمنة أختها واقفة حزينة يائسة، فنهضت إلى جوارها "ومست كتفها مسا رفيقا" وهذا حسن، ولكن المؤلف يأبَى إلا أن يضيف تلك الجملة الرصينة المضحكة "لا تراعي" مع أن "لا تخافي" هي الجملة الواجبة.
ولقد نتج عن عدم اكتفاء الكاتب بتدوين ما تملي عليه شخصياته -كما كان يفعل بومارشيه- أن ظهر تنافر واضح في الأسلوب في بعض المواضع، ففي نفس "الليالي" نرى زنوبة "دلالة" البلدة تدعو آمنة إلى أن تقص عليها سبب حزنها، وذلك لما يبدو عليها من أنها "قارحة، ليس في عينها ملحا". ومع ذلك نجد إلى

الصفحة 43