كتاب في الميزان الجديد

جانب تلك الجملة الشعبية الدالة جملة أخرى لزنوبة نفسها هي "أرى على وجهك شيئا يشبه القحة". وكيف يمكن أن تعبر زنوبة تعبيرا فيه كل هذا التحفظ البلاغي والتخفيف في الحكم "شيئا يشبه القحة" هذا أسلوب المؤلف، وزنوبة بريئة منه. ولقد كنا نفضل بدلا من هذا التنافر أن يترجم الكاتب إلى اللغة الفصحى ما يريد من تعابير الشعب، ولقد دل على أنه يملك تلك القدرة، فأنطق زنوبة بقولها للأم وبنتيها في معرض التحدي "ما أنتن أولاء بيننا منذ أمس ولا سمعنا لَكُنَّ صوتا ولا عرفنا من أمركن شيئا"، ولا ريب في أن تعبيره "ما أنتن أولاء" إن هو إلا تعريب للاصطلاح العامي الشديد "وانتوا إيه يا ادلعدي".
ولو أن أسلوب الكاتب كان بطبيعته قريبا من لغة الواقع لهان الأمر، ولكنه أسلوب فني مصنوع، له خصائصه الثابتة، ونحن نترك الآن جانبا ما في هذا الأسلوب من جمال لنقف عندما يعيبه كأسلوب قصصي، وأوضح تلك العيوب أمران:
1- عدم الدقة والتحديد الناتجين إما عن عدم اختيار اللفظ المعبر، وإما عن استعمال أشباه الجمل.
2- الإسراف الذي نراه أوضح ما يكون في إشباع المعنى أو الإحساس، أو في الصياغة اللفظية التي تلجأ إلى المفاعيل المطلقة على نحو ملحوظ، وفي هذه العيوب ما يبعد به عن مشاكلة الواقع التي رأينا يها مبدأ صارما لا يمكن التسامح فيه.
خذ مثلا حديث الدجالة نفيسة مع آمنة وهي توصيها بأن تذهب إلى قرية قريبة؛ حيث مقام أحد الأولياء، وحيث توجد امرأة لها "قرين" من الجن يستطيع أن يأتي بالأعاجيب، ترى المؤلف الذي يعرف من أسماء الأعلام الشيء الكثير، بل والنادر "كملزمة" اسما للأم، ولا يخصص هذا الولي باسم بل يقول: سيدنا "فلان"، ولا يخصص المرأة بل يقول دار "فلانة"، وفي هذا ما يضعف من الإيهام بالواقع.
ولقد كان يستطيع أن يقول: سيدنا "محمد" ومنزل الشيخة "فاطمة" أو أي اسمين آخرين حتى يوهمنا بأن كل هذا قد حدث فعلا. وكذلك الأمر في استخدامه لأشباه الجمل بدلا من الألفاظ الدقيقة، كتعبيره عن "الشوكة والسكينة" بقوله: "هذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة، بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة"، وتعبيره عن القطار بـ"هذا الشيء المروع المخيف الغريب، الذي يبعث في الجو شررا ونارا وصوتا ضخما عريضا وصفيرا عاليا نحيفا. والذين يركبونه يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا وبالحمير حينا آخر وبالأقدام في أكثر الأحيان". هذا مع أن المؤلف يعرف كيف يتصنع السذاجة البالغة

الصفحة 44