كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 1)

مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَقْسَامِ الإِْبْرَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ، فَاخْتَارَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُحْمَل عَلَى الاِسْتِيفَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِ غَيْرِهَا فِي عَصْرِهِ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الإِْطْلاَقِ هُوَ الْعُرْفُ.
وَعَلَيْهِ لَوْ عَلَّقَ طَلاَقَ الْمَرْأَةِ بِإِبْرَائِهَا لَهُ مِنَ الْمَهْرِ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهَا، لاَ يَبْطُل التَّعْلِيقُ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ صَحَّتْ وَوَقَعَ الطَّلاَقُ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَهُ.
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى وَجْهِ الإِْسْقَاطِ فَلِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا تَبَرَّعَ بِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الصُّوَرَ إِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّامِنَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْهُ الْغَرِيمُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَهَبَهُ بَعْضَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ. (2)
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

ج - وُجُوبُ الْحَقِّ، أَوْ وُجُودُ سَبَبِهِ:
36 - الأَْصْل أَنْ يَقَعَ الإِْبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لإِِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْشِغَالِهَا. وَلَكِنَّهُ قَدْ يَأْتِي قَبْل وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي يَنْشَأُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الإِْبْرَاءِ قَبْل وُجُودِ السَّبَبِ، فَوُجُودُهُ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ فِيهِ سَاقِطٌ أَصْلاً
__________
(1) تبويب الأشباه 383، وحاشية ابن عابدين 2 / 518 ط بولاق، وتكملة حاشية ابن عابدين 2 / 502 الطبعة الثانية مطبعة عيسى الحلبي
(2) القواعد لابن رجب 120 الطبعة الأولى.
بِالْكُلِّيَّةِ، فَلاَ مَعْنَى لإِِسْقَاطِ مَا هُوَ سَاقِطٌ فِعْلاً، وَيَكُونُ الإِْبْرَاءُ مِنْهُ مُجَرَّدَ امْتِنَاعٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، لأَِنَّهُ وَعْدٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ. (1)
37 - وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَفِي اشْتِرَاطِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَحُصُولِهِ فِعْلاً خِلاَفٌ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، فَلاَ يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ قَبْل الْوُجُوبِ وَإِنْ انْعَقَدَ السَّبَبُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِيمَا لاَ يُمْلَكُ (2) . وَالإِْبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَقَدِ اعْتَبَرُوا مَا لَمْ يَجِبْ سَاقِطًا فَلاَ مَعْنَى لإِِسْقَاطِهِ. (3)
وَقَدْ مَثَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالإِْبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْل فَرْضِهَا (أَيْ الْقَضَاءِ بِتَقْدِيرِهَا) فَلاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ إِبْرَاءٌ قَبْل الْوُجُوبِ - بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الاِحْتِبَاسُ - وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْل وُجُوبِهِ لاَ يَصِحُّ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا الإِْبْرَاءُ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِيهِ تَبَعًا لِوُجُوبِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الإِْبْرَاءُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ
__________
(1) الالتزامات للحطاب (كما في فتح العلي المالك 1 / 322)
(2) حديث " لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك " رواه أبو داود والحاكم بلفظ " لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك ". رواه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة بلفظ " لا طلاق قبل النكاح ولا عتاق قبل ملك ". قال ابن حجر: سنده حسن. وله طرق أخرى (تلخيص الحبير 3 / 210) . (فيض القدير 6 / 432)
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي 410 ط عيسى الحلبي، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 82، والقليوبي 2 / 211 و3 / 282، والشرواني على التحفة 7 / 397، والفروع 4 / 195، وكشاف القناع 4 / 256

الصفحة 158