كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 4)
عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذَا سَأَلُوهُ، كَمَا يَجِبُ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْل عُمَرَ فِي أَهْل السَّوَادِ (2) وَقَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ، لأَِنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَكَيْلاَ يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنِ اخْتِيَارٍ. (3) وَهَذَا إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَال: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَال قَوْمٌ: تُؤْخَذُ مِنْ كُل مُشْرِكٍ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ (4) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلإِْمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ: كُل مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنَ الرِّجَال، يَجُوزُ أَخْذُ
__________
(1) المهذب 2 / 236.
(2) الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتاه رؤساء السواد وفيهم ابن الرفيل. فقالوا: يا أمير المؤمنين: إنا من قوم من أهل السواد، وكان أهل فارس قد ظهروا عليا وأضروا بنا، ففعلوا وفعلوا - ومصنف عبد الرزاق 6 / 69 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) مطالب أولي النهى 2 / 522، والمهذب 2 / 236.
(4) بداية المجتهد 1 / 399، 400.
الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْل الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَمَنْ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. (1)
رُجُوعُ الإِْمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ:
29 - لَمْ نَقِفْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبٍ عَلَى مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيمَا عَلِمْتُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ لَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً لَهُ الرُّجُوعِ عَنْهَا أَوْ لاَ، وَلاَ إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ هَل يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ أَوْ لاَ. وَقَال: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً وَظَهَرَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّهَا الأَْحَظُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الأَْحَظَّ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْغَانِمِينَ وَأَهْل الْخُمُسِ مَلَكُوا بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَتْلاً جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِدَاءً أَوْ مَنًّا لَمْ يُعْمَل بِالثَّانِي، لاِسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ ثُمَّ زَال السَّبَبُ، وَتَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الثَّانِي عَمِل بِقَضِيَّتِهِ. وَلَيْسَ هَذَا نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، بَل بِمَا يُشْبِهُ النَّصَّ، لِزَوَال مُوجِبِهِ الأَْوَّل بِالْكُلِّيَّةِ.
مَا يَكُونُ بِهِ الاِخْتِيَارُ:
30 - وَأَمَّا تَوَقُّفُ الاِخْتِيَارِ عَلَى لَفْظٍ، فَإِنَّ الاِسْتِرْقَاقَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَلاَ يَكْفِي
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 1036، والبدائع 7 / 119، وفتح القدير 4 / 306.
الصفحة 205