كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 4)
أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي يَدِ الأَْعْدَاءِ
:
اسْتِئْسَارُ الْمُسْلِمِ وَمَا يَنْبَغِي لاِسْتِنْقَاذِهِ عِنْدَ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِهِ:
أ - الاِسْتِئْسَارُ:
54 - الاِسْتِئْسَارُ هُوَ تَسْلِيمُ الْجُنْدِيِّ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ، فَقَدْ يَجِدُ الْجُنْدِيُّ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ الاِسْتِئْسَارُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَنَدِهِ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً رَهْطًا عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ - مَوْضِعٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ - ذُكِرُوا لِبَنِي لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتِي رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ - مَوْضِعٍ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ - وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُل مِنْكُمْ أَحَدًا، قَال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَاَللَّهِ لاَ أَنْزِل الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْل فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَل إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَْنْصَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثْنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَال الرَّجُل الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّل الْغَدْرِ، وَاَللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لأَُسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ - أَيْ مَارَسُوهُ وَخَادَعُوهُ لِيَتْبَعَهُمْ - فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثْنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ. . . (1) فَعَلِمَ
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 7 / 268، 269 ط مصطفى الحلبي سنة 1380 هـ، والحديث: أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (6 / 165 - 166 ط السلفية) .
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا حَدَثَ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ يَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْسَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقَال الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُل إِذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ. (1) وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
55 - وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى شُرُوطٍ يَلْزَمُ تَوَافُرُهَا لِجَوَازِ الاِسْتِئْسَارِ هِيَ: أَنْ يَخَافَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِسْلاَمِ قَتْلُهُ فِي الْحَال، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَسْلِمُ إِمَامًا، أَوْ عِنْدَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الصُّمُودِ، وَأَنْ تَأْمَنَ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا الْفَاحِشَةَ.
وَالأَْوْلَى - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - إِذَا مَا خَشِيَ الْمُسْلِمُ الْوُقُوعَ فِي الأَْسْرِ أَنْ يُقَاتِل حَتَّى يُقْتَل، وَلاَ يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ، لأَِنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالاِسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. (2)
ب - اسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَمُفَادَاتُهُمْ:
56 - إِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يَلْزَمُهُمُ الْعَمَل عَلَى خَلاَصِهِ، وَلَوْ بِتَيْسِيرِ سُبُل الْفِرَارِ لَهُ، وَالتَّفَاوُضِ مِنْ أَجْل إِطْلاَقِ سَرَاحِهِ، فَإِذَا لَمْ يُطْلِقُوا سَرَاحَهُ تَرَبَّصُوا لِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الرَّسُول صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِتَخْلِيصِ الأَْسْرَى. رَوَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ قُرَيْشًا أَسَرَتْ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
__________
(1) العيني على صحيح البخاري 14 / 294.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 357، وفتح الوهاب 2 / 171، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 553، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 30، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 3 / 222.
الصفحة 214