كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 4)

وَيَحْصُل الإِْسْقَاطُ أَيْضًا نَتِيجَةَ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، كَمَنْ يَشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَبِيعِ بِوَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ. (1)

الْقَبُول:
12 - الأَْصْل فِي الإِْسْقَاطِ أَنْ يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، لأَِنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ، مَا دَامَ لَمْ يَمَسَّ حَقَّ غَيْرِهِ. (2)
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الإِْسْقَاطَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُقَابَل بِعِوَضٍ، يَتِمُّ بِصُدُورِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ، كَالطَّلاَقِ، فَلاَ يَحْتَاجُ الطَّلاَقُ إِلَى قَبُولٍ. (3)
13 - وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الإِْسْقَاطَ الَّذِي يُقَابَل بِعِوَضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى قَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ (4) ، لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى قَبُول دَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، إِذِ الْمُعَاوَضَةُ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِرِضَى الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْقِسْمِ الصُّلْحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْجَانِي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 171.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 260.
(3) تكملة ابن عابدين 2 / 142، والاختيار 4 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 299، والمهذب 2 / 78، ومنتهى الإرادات 3 / 128.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 113، 114، وجواهر الإكليل 1 / 330، والاختيار 3 / 157، والمهذب 2 / 73.
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ. وَلأَِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الإِْسْقَاطُ عَفْوًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى إِحْسَانِ الأَْوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِل، فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي. (2)
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ قَوْلٌ لِلإِْمَامِ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، إِذَا أَرَادَ أَخْذَ الدِّيَةِ بَدَل الْقِصَاصِ، فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ. (4) وَبِهَذَا قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (5) .

14 - وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الإِْسْقَاطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، كَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْسْقَاطِ هُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبَيِ الإِْسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، نَظَرُوا إِلَى جَانِبِ الإِْسْقَاطِ
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) الهداية 4 / 158، 167.
(3) الكافي لابن عبد البر 2 / 1100.
(4) حديث: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يودى، وإما أن يقاد " أخرجه البخاري (12 / 205 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (2 / 989 - ط الحلبي) .
(5) المغني 7 / 751، والمهذب 2 / 189، والكافي لابن عبد البر 2 / 1100.

الصفحة 230