كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 4)

فِيهِ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْقَبُول، لأَِنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَلأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول، كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ وَالشُّفْعَةِ. (1) بَل إِنَّ الْخَطِيبَ الشِّرْبِينِيَّ قَال: لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الإِْبْرَاءُ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ. (2)
وَيَسْتَوِي عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ بِالإِْبْرَاءِ أَوْ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، إِلاَّ مَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْهِبَةِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُول. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هِبَةُ الدَّيْنِ مِنَ الْكَفِيل لاَ تَتِمُّ بِدُونِ الْقَبُول، وَإِبْرَاؤُهُ يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولٍ. (3)
15 - وَلَمَّا كَانَ الإِْبْرَاءُ مِنْ بَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسُ مَال السَّلَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعَارُضِ مَعَ رَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُول، فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى الْقَبُول فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ، وَلَكِنْ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ فِيهِمَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّارِعِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لاَ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِهِ، فَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُول الآْخَرِ. (4)
وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَدِينِ مِنَ الدَّيْنِ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى الْقَبُول،
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 142، 347، والمهذب 1 / 455، 2 / 60، والدسوقي 4 / 99، ومنح الجليل 4 / 86، وشرح منتهى الإرادات 2 / 521، والمغني 5 / 658.
(2) نهاية المحتاج 4 / 373.
(3) تكملة ابن عابدين 2 / 347، وأشباه ابن نجيم ص 264، والفتاوى الهندية 4 / 384.
(4) تكملة ابن عابدين 2 / 347.
لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ - عَلَى رَأْيِهِمْ - نَقْلٌ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَدِينِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيل الْهِبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُول. (1)
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هِيَ تَرَفُّعُ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَمَّا قَدْ يَحْدُثُ فِي الإِْبْرَاءِ مِنْ مِنَّةٍ، وَمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ ضَرَرٍ بِذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا مِنَ السَّفَلَةِ، فَكَانَ لَهُمُ الرَّفْضُ شَرْعًا، نَفْيًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِل مِنَ الْمِنَنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. (2)

رَدُّ الإِْسْقَاطِ:
16 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاَلَّتِي لَمْ تُقَابَل بِعِوَضٍ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ لاَ تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لأَِنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول، وَبِالإِْسْقَاطِ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَالْحَقُّ، فَيَتَلاَشَى وَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الرَّدُّ، وَالسَّاقِطُ لاَ يَعُودُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي أَنَّ الإِْسْقَاطَاتِ الَّتِي تُقَابَل بِعِوَضٍ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبُولٌ أَوْ طَلَبٌ. (3)
17 - أَمَّا مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رَأْيُ
__________
(1) الدسوقي 4 / 99، والفروق للقرافي 2 / 110، والمهذب 1 / 455، وشرح الروض 2 / 195.
(2) الفروق 2 / 110، وشرح الروض 2 / 95، ومنح الجليل 4 / 86، 88، والدسوقي 4 / 99، والمهذب 1 / 454، 455 و 2 / 73، ويلاحظ أن هذه الحكمة علل بها الحنفية أيضا ارتداد الإبراء بالرد، كما سيأتي (البدائع 5 / 203) .
(3) لاختيار 3 / 121، 157، 4 / 17، وشرح منتهى الإرادات 3 / 107، 108 و 2 / 676، والمهذب 2 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 330، 2 / 299، والمغني 5 / 658.

الصفحة 231