كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 4)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْوُجُوبِ، هَل هُوَ وُجُوبٌ عَيْنِيٌّ، أَوْ وُجُوبٌ كِفَائِيٌّ؟ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْصْل أَنَّ الاِسْتِمَاعَ لِلْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لأَِنَّهُ لإِِقَامَةِ حَقِّهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا إلَيْهِ غَيْرَ مُضَيِّعٍ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِإِنْصَاتِ الْبَعْضِ، كَمَا فِي رَدِّ السَّلاَمِ.
وَنَقَل الْحَمَوِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ يَحْيَى الشَّهِيرِ بِمِنْقَارِي زَادَهْ: أَنَّ لَهُ رِسَالَةً حَقَّقَ فِيهَا أَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ فَرْضُ عَيْنٍ. (1)
نَعَمْ إنَّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَْعْرَافِ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (2) قَدْ نَزَلَتْ لِنَسْخِ جَوَازِ الْكَلاَمِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ. (3) إلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَفْظُهَا يَعُمُّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ وَفِي غَيْرِهَا. (4)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. (5)
4 - وَيُعْذَرُ الْمُسْتَمِعُ بِتَرْكِ الاِسْتِمَاعِ لِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَلاَ يَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ - بَل الآْثِمُ هُوَ التَّالِي، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - إِذَا وَقَعَتِ التِّلاَوَةُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فِي أَمَاكِنِ الاِشْتِغَال، وَالْمُسْتَمِعُ فِي حَالَةِ اشْتِغَالٍ، كَالأَْسْوَاقِ الَّتِي بُنِيَتْ لِيَتَعَاطَى فِيهَا النَّاسُ أَسْبَابَ الرِّزْقِ، وَالْبُيُوتِ فِي حَالَةِ تَعَاطِي أَهْل الْبَيْتِ أَعْمَالَهُمْ مِنْ كَنْسٍ وَطَبْخٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 367.
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) انظر تفسير القرطبي لهذه الآية (7 / 353 ط دار الكتب المصرية 1960 م) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 366.
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 242.
وَفِي حَضْرَةِ نَاسٍ يَتَدَارَسُونَ الْفِقْهَ، وَفِي الْمَسَاجِدِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَبَعٌ لِلصَّلاَةِ، فَلاَ تُتْرَكُ الصَّلاَةُ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ فِيهِ. وَإِنَّمَا سَقَطَ إثْمُ تَرْكِ الاِسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ فِي حَالاَتِ الاِشْتِغَال دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ. قَال تَعَالَى - {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وَإِنَّمَا أَثِمَ الْقَارِئُ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُضَيِّعٌ لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ. (2)
ب - طَلَبُ تِلاَوَتِهِ لِلاِسْتِمَاعِ إلَيْهِ:
5 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَطْلُبَ مِمَّنْ يُعْلَمُ مِنْهُ إجَادَةُ التِّلاَوَةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ التِّلاَوَةَ لِيَسْتَمِعَ إلَيْهَا، قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: " اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِرَاءَةِ بِالأَْصْوَاتِ الْحَسَنَةِ أَنْ يَقْرَءُوا وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَهُوَ مِنْ عَادَةِ الأَْخْيَارِ الْمُتَعَبِّدِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِل؟ قَال: نَعَمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى هَذِهِ الآْيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} (3) قَال: حَسْبُكَ الآْنَ، فَالْتَفَتُّ
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) مواهب الجليل 2 / 62 طبع مكتبة النجاح طرابلس ليبيا، وجواهر الإكليل 1 / 71 طبع عباس شقرون، وحاشية ابن عابدين 1 / 366 و 367، والفتاوى الهندية 5 / 316.
(3) سورة النساء / 41.
الصفحة 86