كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 6)

فَهَذِهِ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ فِعْلُهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِهَا، إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ قَتْل نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَلاَ شَكَّ أَنَّ الإِْكْرَاهَ الْمُلْجِئَ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ الإِْثْمَ فِيهَا. فَيُبَاحُ الْفِعْل عِنْدَ تَحَقُّقِهَا. وَتَنَاوُل الْمُبَاحِ دَفْعًا لِلْهَلاَكِ عَنِ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا - وَاجِبٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَلَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا لَمْ يُحَدَّ، لأَِنَّهُ لاَ جِنَايَةَ حِينَئِذٍ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَجْرًا عَنِ الْجِنَايَاتِ.
ج - أَفْعَالٌ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَحَمُّل الأَْذَى، وَلَمْ يَفْعَلْهَا حَتَّى مَاتَ، كَانَ مُثَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الإِْنْسَانُ عَلَى الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْفِعْل مَتَى كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} . (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: مَا وَرَاءَكَ؟ قَال: شَرٌّ،
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) سورة النحل / 106.
يَا رَسُول اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَال: مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ. (1)
وَقَدْ أَلْحَقَ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ بِهَذَا النَّوْعِ الإِْكْرَاهَ عَلَى إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَرْكِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوْ إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ صَبَرَ وَتَحَمَّل الأَْذَى، وَلَمْ يَفْعَل مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ مُثَابًا، وَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ الإِْتْلاَفِ عَلَى الْحَامِل عَلَيْهِ لاَ عَلَى الْفَاعِل، لأَِنَّ فِعْل الإِْتْلاَفِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِل بِجَعْل الْفَاعِل آلَةً لَهُ، فَيَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
د - أَفْعَالٌ لاَ يَحِل لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، كَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، فَهَذِهِ الأَْفْعَال لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْهَا ضَيَاعُ نَفْسِهِ، لأَِنَّ نَفْسَ الْغَيْرِ مَعْصُومَةٌ كَنَفْسِ الْمُكْرَهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل كَانَ آثِمًا، وَوَجَبَ عِقَابُ الْحَامِل لَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْل بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ هَذَا الْعِقَابِ.
فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولاَنِ: إِنَّهُ الْقِصَاصُ، لأَِنَّ الْقَتْل يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِل بِجَعْل الْفَاعِل آلَةً لَهُ، وَالْقِصَاصُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَاتِل لاَ عَلَى آلَةِ الْقَتْل.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُول: إِنَّهُ الدِّيَةُ، لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ
__________
(1) حديث تعذيب عمار: " فإن عادوا فعد ". أخرجه ابن جرير (14 / 182 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 357 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.

الصفحة 107