كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 7)

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَوَافَقُوهُمْ أَيْضًا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا جَاهِلاً صَدَّقَ نَفْسَهُ، أَوْ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَبَيَّنَ خِلاَفُهُ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ لَغْوًا يُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ لَغْوًا. وَنَقَل صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى عَنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلاَفِهِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَكَذَا مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَل فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ لَغْوٌ، ثُمَّ قَال: وَالْمَذْهَبُ خِلاَفُهُ. (1)
ثُمَّ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (2) أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِمَا يَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
104 - وَوَجْهُ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ - {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} - فِي قَوْل الرَّجُل: لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ (3) وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَهِدَتِ التَّنْزِيل وَقَدْ جَزَمَتْ بِأَنَّ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْل
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 367 - 368.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) حديث عائشة أخرجه البخاري (8 / 275 - الفتح - ط السلفية) .
الأَْوْطَارِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ دَل عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الإِْثْمَ وَالْكَفَّارَةَ، فَلاَ يَجِبَانِ، وَالْمُتَوَجَّهُ الرُّجُوعُ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَى اللَّغْوِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَهْل عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ قَدْ كَانُوا مِنْ أَهْل الشَّرْعِ وَمِنَ الْمُشَاهِدِينَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَاضِرِينَ فِي أَيَّامِ النُّزُول، فَإِذَا صَحَّ عَنْ أَحَدِهِمْ تَفْسِيرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يُسَاوِيهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ اللَّفْظِ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ شَرْعِيًّا لاَ لُغَوِيًّا، وَالشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول، فَكَانَ الْحَقُّ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، هُوَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (1)
فَثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ اللَّغْوَ هِيَ الَّتِي لاَ يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.
وَأَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَل الْيَمِينَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . (2)
وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَكَانَتْ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ اللَّغْوِ بِلاَ فَصْلٍ بَيْنَ مَاضِيهِ وَحَالِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.
وَوَجْهُ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَابَل اللَّغْوَ بِالْمَعْقُودَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اللَّغْوُ غَيْرَ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 236.
(2) سورة البقرة / 225.

الصفحة 284