كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 7)

اقْتَصَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي، وَشَرَطُوا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ. (1)
113 - احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ بِأَنَّهَا مَكْسُوبَةٌ مَعْقُودَةٌ، إِذِ الْكَسْبُ فِعْل الْقَلْبِ، وَالْعَقْدُ: الْعَزْمُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فَاعِلٌ بِقَلْبِهِ وَعَازِمٌ وَمُصَمِّمٌ، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ. وَقَدْ أَجْمَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. . .} (3)
عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَحَقُّ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ سَائِرِ الأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الآْيَتَيْنِ، يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَعَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْكَسْبِ بِالْقَلْبِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى تَعْقِيدِ الأَْيْمَانِ وَإِرَادَتِهَا، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ أَعْظَمَ انْطِبَاقٍ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لأَِنَّهَا حَانِثَةٌ مِنْ حِينِ إِرَادَتِهَا وَالنُّطْقِ بِهَا، فَالْمُؤَاخَذَةُ مُقَارِنَةٌ لَهَا، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ، فَإِنَّهُ لاَ مُؤَاخَذَةَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 368.
(2) سورة البقرة / 225.
(3) سورة المائدة / 89.
عَلَيْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا، فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ فِي تَطْبِيقِ الآْيَتَيْنِ عَلَيْهَا إِلَى تَقْدِيرٍ، بِأَنْ يُقَال: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِالْحِنْثِ فِيمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَبِالْحِنْثِ فِي أَيْمَانِكُمُ الْمَعْقُودَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1) مَعْنَاهُ: إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.
114 - وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
ثَانِيًا: مَا رَوَاهُ الأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَمَا مَعْنَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ أَثْبَتَتْ أَنَّ حُكْمَ الْغَمُوسِ الْعَذَابُ فِي الآْخِرَةِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ.
ثَالِثًا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) حديث: " من حلف على يمين صبر. . . " أخرجه البخاري (8 / 212) ط السلفية، ومسلم (1 / 86) ط دار الآفاق. وقوله (صبر) بفتح الصاد وسكون الباء معناه: اليمين التي تلزم ويجبر حالفها عليها، وتسمى مصبورة أيضا: لأن القاضي يصبر صاحبها أي يحبسه حتى يؤديها. (ر: فيض القدير 6 / 120) .

الصفحة 289