كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 7)

وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَلاَمُ النَّاسِ بِخِلاَفِهِ، فَإِنْ كَانَ كَلاَمُ النَّاسِ بِخِلاَفِهِ وَجَبَ حَمْل اللَّفْظِ عَلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
وَمِنْ أَدِلَّةِ تَقْدِيمِ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عَلَى اللُّغَوِيِّ الأَْصْلِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، أَفَتُجْزِي عَنْهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَال: " مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَال مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَال: " مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ؟ إِنَّمَا الْبَقَرُ لِلأَْزْدِ، وَذَهَبَ وَهْمُ صَاحِبِكُمْ إِلَى الإِْبِل (1)
فَهَذَا الأَْثَرُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي حَمْل الْكَلاَمِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ النَّاسُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ النَّاسِ تَذْهَبُ إِلَى الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، فِيمَا لَهُ مَعْنًى لُغَوِيٌّ وَمَعْنًى عُرْفِيٌّ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ إِطْلاَقِ اللَّفْظِ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَال الْغَرِيمُ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لأََجُرَّنَّكَ فِي الشَّوْكِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَتَهُ اللُّغَوِيَّةَ عَادَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ شِدَّةَ الْمَطْل، فَلاَ يَحْنَثُ بِعَدَمِ جَرِّهِ فِي الشَّوْكِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِإِعْطَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ.
وَلَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَجْلِسَ فِي سِرَاجٍ، فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا سِرَاجًا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَل الشَّمْسَ سِرَاجًا} (2) وَكَذَا لاَ يَحْنَثُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الأَْرْضِ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَلاَّ يَجْلِسَ عَلَى بِسَاطٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل سَمَّى الأَْرْضَ بِسَاطًا فِي قَوْلِهِ: {
__________
(1) يعني أنه لم يخطر ببال صاحبكم عند النطق بهذه الوصية إلا الإبل.
(2) سورة نوح / 16.
وَاللَّهُ جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ بِسَاطًا} (1) وَكَذَا مَنْ حَلَفَ أَلاَّ يَمَسَّ وَتَدًا، فَمَسَّ جَبَلاً لاَ يَحْنَثُ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَدًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْجِبَال أَوْتَادًا} (2) وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لاَ يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ إِنْسَانًا لاَ يَحْنَثُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى دَابَّةً فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى دَابَّةً فِي اللُّغَةِ. (3)
وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَجْعَل اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى آخَرَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ صَارَ مَجَازًا عَنِ الدُّخُول مُطْلَقًا، فَفِي هَذَا لاَ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ أَصْلاً، حَتَّى لَوْ وَضَعَ قَدَمَهُ وَلَمْ يَدْخُل لاَ يَحْنَثُ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى الأَْصْلِيَّ وَالْعُرْفِيَّ لِلَّفْظِ قَدْ هُجِرَ، وَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَمِثْلُهُ: لاَ آكُل مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - وَهِيَ مِنَ الأَْشْجَارِ الَّتِي لاَ تُثْمِرُ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَكْل شَيْءٍ مِنْهَا - فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى الاِنْتِفَاعِ بِثَمَنِهَا، فَلاَ يَحْنَثُ بِتَنَاوُل شَيْءٍ مِنْهَا وَمَضْغِهِ وَابْتِلاَعِهِ. (4)

ب - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
169 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَلَمْ يَنْوِ الْحَالِفُ نِيَّةً مُعْتَبَرَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَمِينِ بِسَاطٌ دَالٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ، فَالْمُعْتَمَدُ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَأْكُل خُبْزًا، وَكَانَ أَهْل بَلَدِهِ لاَ يَأْكُلُونَ
__________
(1) سورة نوح / 19.
(2) سورة النبأ / 7.
(3) فتح القدير 3 / 30.
(4) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 73. وقد ألف في هذا الموضوع رسالة سماها (رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض) وحث على مراجعتها لمن أراد الزيادة على التحقيق المذكور هنا.

الصفحة 312