كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 8)

وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ، جَهْلُهُمْ بِدَوْرِهَا فِي التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَكَانَةَ السُّنَّةِ فِي التَّشْرِيعِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .

د - تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْل:
18 - عَدَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ دَوَاعِي الْبِدْعَةِ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْعَقْل، وَيَتَأَتَّى هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلاَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَحْيِ وَإِخْبَارِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجُرُّهُ عَقْلُهُ الْقَاصِرُ إِلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَالاِبْتِدَاعِ، وَيَظُنُّ أَنَّ عَقْلَهُ مُوَصِّلُهُ، فَإِذَا هُوَ مُهْلِكُهُ.
وَهَذَا لأَِنَّ اللَّهَ جَعَل لِلْعُقُول فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لاَ تَتَعَدَّاهُ، مِنْ نَاحِيَةِ الْكَمِّ وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَيْفِ. أَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلاَ يَتَنَاهَى، وَالْمُتَنَاهِي لاَ يُسَاوِي مَا لاَ يَتَنَاهَى.
وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ:
(1) أَنَّ الْعَقْل مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يُجْعَل حَاكِمًا بِإِطْلاَقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤَخِّرَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ.
(2) إِذَا وَجَدَ الإِْنْسَانُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا خَرْقَ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ - الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَآهَا أَوْ عَلِمَ بِهَا عِلْمًا صَحِيحًا -
__________
(1) سورة الحشر / 7.
لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لأَِوَّل وَهْلَةٍ الإِْنْكَارَ بِإِطْلاَقٍ، بَل أَمَامَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيَكِل الْعِلْمَ فِيهِ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَخَصِّصِينَ فِيهِ مُتَمَثِّلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1)
الثَّانِي: يَتَأَوَّل عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنَ الآْرَاءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ. (2) وَيَحْكُمُ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (3) وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (4) .

هـ - اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ:
19 - قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَال آخَرُونَ: هُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ الأَْدِلَّةُ. (5) وَقَدْ نَهَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بِقَوْلِهِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ
__________
(1) سورة آل عمران / 7.
(2) الاعتصام للشاطبي 2 / 275 - 284، وإعلام الموقعين 1 / 47 ط دار الجيل، والموافقات 1 / 87.
(3) سورة الجاثية / 18.
(4) سورة النساء / 59.
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 / 2 ط دار الكتب، وتفسير الطبري 3 / 173ط الحلبي، والاعتصام 1 / 174.

الصفحة 30