كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 15)

مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ، وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الإِْمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا فَتَحَ بِلاَدَهُمْ عَنْوَةً.
فَالضَّرْبُ الأَْوَّل: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ بَل تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ بَيْنَ الإِْمَامِ وَأَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إِلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى.
فَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، وَعَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ.
وَصَالَحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا صَالَحَهُمْ - يَعْنِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ - عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لاَ نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 288، تبيين الحقائق 3 / 276، الهداية 2 / 159، الاختيار 4 / 137، بدائع الصنائع 9 / 4331.
وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ - فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ، هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: فَزِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الاِسْمِ، لاَ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَفَعَل فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: " سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ (1) ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الأَْقَل وَالأَْكْثَرِ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِل اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَال عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: " وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لاَ يَكُونُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْنَا بِهِ " (3) وَقَدْ فَعَل عُمَرُ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الأَْرْضِ،
__________
(1) نصب الراية 2 / 363، السنن الكبرى 9 / 216، الخراج لأبي يوسف ص 120، والأموال لأبي عبيد ص 40، والأموال لابن زنجويه 1 / 131.
(2) نصب الراية 3 / 447، الأموال لأبي عبيد ص 56، الأموال لابن زنجويه 1 / 160، والسنن الكبرى 9 / 196.
(3) المبسوط 10 / 78، البدائع 9 / 4332.

الصفحة 183