كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 15)
51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأَْدَاءِ آخِرُ الْحَوْل (1) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِزْيَةِ، فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمَجُوسِ بَعْدَ نُزُول آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَال، بَل كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْل لِجِبَايَتِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْل الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (2) .
وَتَدُل سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالأُْمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 405، المقدمات لابن رشد 1 / 397، المنتقى 2 / 176، حاشية الخرشي 3 / 145، منح الجليل 1 / 758، المهذب مع المجموع 18 / 218، رحمة الأمة 2 / 181، الميزان 2 / 185، الإفصاح 2 / 294، المغني 8 / 504، المبدع 3 / 410، المذهب الأحمد ص 210، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 39، كشاف القناع 3 / 121، الإنصاف 4 / 229.
(2) حديث: " بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين. . . . " أخرجه البخاري (6 / 257 - 258 ط السلفية) من حديث عمر بن عوف.
الْجِزْيَةِ. فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ (1) .
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْل، فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلاَ تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُول السَّنَةِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأَْدَاءِ فِي أَوَّل السَّنَةِ، فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلاَةِ، وَلِلإِْمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4) .
فَجَعَل إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَال عَنْهُمْ؛ لأَِنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (5) وَقَدْ حَظَرَ إِبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد 381، الأموال لابن زنجويه 2 / 505 وإسناد ابن زنجويه صحيح.
(2) المغني 8 / 504، المنتقى 2 / 176، المقدمات 1 / 397، المهذب مع المجموع 18 / 219.
(3) فتح القدير 5 / 298، البدائع 9 / 4331، الفتاوى الهندية 2 / 244، حاشية ابن عابدين 4 / 196، مجمع الأنهر 1 / 672، والاختيار 4 / 137.
(4) سورة التوبة / 29.
(5) سورة البقرة / 222.
الصفحة 188