كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 18)

وَإِنَّمَا صَرَفُوا الْكَلاَمَ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلْحَاقًا لِلْحَوَالَةِ بِسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو مِنْ شَوْبِ مُعَاوَضَةٍ.
وَاسْتَظْهَرَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ أَنَّهُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، لأَِنَّ أَهْل الْمُلاَءَةِ قَدْ يَكُونُ فِيهِمُ اللَّدَدُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمَطْل بِالْحُقُوقِ، وَهُوَ ضَرَرٌ لاَ يَأْمُرُ الشَّارِعُ بِتَحَمُّلِهِ، بَل بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُ وَاجْتِنَابِهِ. فَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ اسْتُحِبَّ اتِّبَاعُهُ، تَفَادِيًا لِلْمِسَاسِ بِمَشَاعِرِهِ، وَتَنْفِيسًا عَنِ الْمَدِينِ نَفْسِهِ، وَمَنْ جُهِل حَالُهُ فَعَلَى الإِْبَاحَةِ، إِذْ لاَ تَرْجِيحَ بِلاَ مُرَجِّحٍ (1) .
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَجْعَل الْمُلاَءَةَ شَيْئًا، وَكُلًّا مِنِ الإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ وَعَدَمِ الْمُمَاطَلَةِ شَيْئًا آخَرَ.
وَذَلِكَ إِذْ يَقُول: (يُسَنُّ قَبُولُهَا عَلَى مَلِيءٍ، مُقِرٍّ، بَاذِلٍ، لاَ شُبْهَةَ فِي مَالِهِ) . (2)

حَقِيقَةُ عَقْدِ الْحَوَالَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
11 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الْحَوَالَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَنُسِبَ النَّصُّ عَلَيْهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 5 / 444 والبجيرمي على المنهج 3 / 20 والمغني لابن قدامة 5 / 60.
(2) حاشية الباجوري على ابن قاسم 1 / 391 ونهاية المحتاج على المنهاج بحواشيها 5 / 408، والبجيرمي على المنهج 3 / 119.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 54 والأشباه والنظائر بحاشية الحموي 2 / 213.
لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مَلَكَ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ، فَكَأَنَّمَا الْمُحَال قَدْ بَاعَ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيل بِمَا لِهَذَا فِي ذِمَّةِ مَدِينِهِ.
وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحَوَالَةُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ: لأَِنَّ الْمُحْتَال يَبِيعُ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيل بِمَا لِلْمُحِيل فِي ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْمُحِيل يَبِيعُ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ) .
وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَوَّل كَلاَمِهِ، إِذْ يَقُول بِإِطْلاَقٍ: (وَالْحَوَالَةُ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ) .
فَالْحَوَالَةُ، عَلَى هَذَا، بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، أَوْ كَمَا يَقُول فِي الْحَاوِي الزَّاهِدِيِّ: (هِيَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ) ، وَالْقِيَاسُ امْتِنَاعُهُ، وَلَكِنَّهُ جَوَّزَ لِلْحَاجَةِ، رُخْصَةً مِنَ الشَّارِعِ وَتَيْسِيرًا.
فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَدِينُ مُمَاطِلاً، يُؤْذِي دَائِنِيهِ بِتَسْوِيفِهِ وَكَذُوبِ وُعُودِهِ، أَوْ بِمُشَاغَبَاتِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ هُوَ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، وَأَحْسَنُ مُعَامَلَةً، وَأَوْفَرُ رِزْقًا، فَيَرْغَبُ دَائِنُو الأَْوَّل فِي التَّحَوُّل إِلَى هَذَا تَوْفِيرًا لِلْجَهْدِ وَالْوَقْتِ، وَاتِّقَاءً لأَِخْطَارِ الْخُصُومَاتِ، وَتَحْصِيلاً لِجُزْءٍ مِنَ الْمَال عَاطِلٍ، يُمْكِنُ أَنْ تُنَمَّى بِهِ ثَرْوَةٌ، أَوْ تُسَدُّ بِهِ خَلَّةٌ. فَرَخَّصَ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ أَجْل هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ، إِذْ لَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَفَاتَتْ كُل هَذِهِ الأَْغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ، وَلَحَاقَتْ بِالدَّائِنِينَ أَضْرَارٌ جَمَّةٌ، وَلاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ. وَالْعَكْسُ

الصفحة 172