كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 18)

3 - خَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَلاَل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِالْمُبَاحِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ شَامِلٌ لِلْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ الْوَاجِبُ بِالْمُحَرَّمِ رُوعِيَ مُقْتَضَى الْوَاجِبِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَهُمُ اخْتِلاَطُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفَّارِ يَجِبُ غَسْل الْجَمِيعِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْهِجْرَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ بِلاَدِ الْكُفَّارِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا وَحْدَهَا حَرَامًا، وَنَحْوُهَا.
وَقَدْ خَرَّجَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْفُرُوعَ عَلَى قَاعِدَةِ إِذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي قُدِّمَ الْمَانِعُ.
وَدَلِيل قَاعِدَةِ - إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلاَل وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ - أَنَّ فِي تَغْلِيبِ الْحَرَامِ تَقْلِيلاً لِلتَّغْيِيرِ فِي الأَْحْكَامِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ قَبْل وُرُودِ الشَّرْعِ بِمَا يُحَرِّمُهُ أَوْ يُبِيحُهُ فَإِنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (1) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} (2) . فَإِذَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ فَقَدْ غُيِّرَ الأَْمْرُ وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الاِنْتِفَاعِ، ثُمَّ إِذَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ الإِْبَاحَةَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَيَلْزَمُ هُنَا تَغْيِيرَانِ. وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمُبِيحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِلإِْبَاحَةِ الأَْصْلِيَّةِ لاَ مُغَيِّرًا لَهَا، فَإِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ كَانَ نَاسِخًا لِلإِْبَاحَةِ وَمُغَيِّرًا لَهَا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ تَقْلِيلٌ لِلتَّغْيِيرِ.
__________
(1) سورة الإسراء / 15.
(2) سورة البقرة / 29.
وَهَذَا الدَّلِيل يُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةَ مِنْ أَنَّ الْحَلاَل شَامِلٌ لِلْمُبَاحِ وَلِلْوَاجِبِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ تَرْجِيحَ التَّحْرِيمِ أَحَبُّ، لأَِنَّ فِيهِ تَرْكَ مُبَاحٍ لاِجْتِنَابِ مُحَرَّمٍ وَذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَتَطْبِيقَاتِهَا: تَعَارُضُ حَدِيثِ: لَكَ مِنَ الْحَائِضِ مَا فَوْقَ الإِْزَارِ (1) مَعَ حَدِيثِ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ (2) فَإِنَّ الأَْوَّل يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي إِبَاحَةَ مَا عَدَا الْوَطْءَ فَيُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ احْتِيَاطًا.
وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَبَهَتْ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ تَحِل.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ بَعْضُهَا فِي الْحِل وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ حَرُمَ قَطْعُهَا.
وَغَيْرُهَا مِنَ الأَْمْثِلَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ مِنْهَا: إِذَا رَمَى سَهْمًا إِلَى طَائِرٍ فَجَرَحَهُ وَوَقَعَ عَلَى الأَْرْضِ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَحِل، وَإِنْ أَمْكَنَ إِحَالَةُ الْمَوْتِ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الأَْرْضِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ.
__________
(1) حديث: " لك من الحائض ما فوق الإزار " أخرجه أبو داود (1 / 145 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري، وإسناده حسن.
(2) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " أخرجه مسلم (1 / 246 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.

الصفحة 76