كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 21)

قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْحُدُودَ الْمَضْرُوبَةَ لَهُ (2) وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ (3) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الأَْصْل، فَنُقِل عَنِ الْقَاضِي أَنَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرَامٌ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يُهَلِّلُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا، وَقَال لَهُمْ: مَا أَرَاكُمْ إِلاَّ مُبْتَدِعِينَ. وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال فَالإِْسْرَارُ أَفْضَل حَيْثُ خِيفَ الرِّيَاءُ أَوْ تَأَذِّي الْمُصَلِّينَ أَوِ النِّيَامِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل حَيْثُ خَلاَ مِمَّا ذُكِرَ (4) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل مَوَاضِعُ يَنْبَغِي فِيهَا الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهَا:
1 - مَا قُصِدَ بِهِ الإِْسْمَاعُ وَالتَّبْلِيغُ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الإِْمَامِ وَقِرَاءَتِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْمُبَلِّغِ وَإِلْقَاءِ السَّلاَمِ وَجَوَابِهِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ (5) .
__________
(1) سورة الإسراء / 110.
(2) نزل الأبرار ص 8.
(3) فتح القدير 1 / 469.
(4) ابن عابدين 5 / 255.
(5) ابن عابدين 2 / 175.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، جَهْر) .
2 - بَعْضُ أَنْوَاعِ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ فِيهَا بِالْجَهْرِ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالتَّأْمِينِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ (1) وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، وَجَهْر) .
3 - بَعْضُ الأَْذْكَارِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ أَوِ التَّعْلِيمُ، أَوْ فَائِدَةٌ أُخْرَى كَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُنَبِّهَ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ اللَّيْل لِيُسْمِعَ أَهْلَهُ (2) . قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَرَفْعُ صَوْتِ مُرَابِطٍ وَحَارِسِ بَحْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي حَرَسِهِمْ لأَِنَّهُ شِعَارُهُمْ لَيْلاً وَنَهَارًا (3) .

الاِجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ:
40 - أَوْرَدَ صَاحِبُ نُزُل الأَْبْرَارِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ (4) ثُمَّ قَال: فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 256.
(2) كشاف القناع 1 / 366 - 368.
(3) جواهر الإكليل 1 / 256.
(4) حديث: " لا يقعد قوم يذكرون الله " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

الصفحة 251