كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 24)

عَلَيْهِمْ، وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ، فَيَصِيرُونَ سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَل الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ بِهَا، فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ، وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَاقِيَةِ الدَّالَّيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَذَلِكَ أَفْضَل أَحْوَال الْعَامِلِينَ، وَأَعْلَى مَنَازِل الْعَابِدِينَ.
28 - ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَفْضَل الْحَالَتَيْنِ، وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ، وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلاَءُ الْخَلَفِ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لاَ يَمَل اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ (1) .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا اسْتِكْثَارَ مَنْ لاَ يَنْهَضُ بِدَوَامِهَا، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى اتِّصَالِهَا، فَهَذَا رُبَّمَا كَانَ بِالْمُقَصِّرِ أَشْبَهَ؛ لأَِنَّ الاِسْتِكْثَارَ مِنَ الزِّيَادَةِ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ اللاَّزِمِ فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ تَقْصِيرًا؛ لأَِنَّهُ تَطَوَّعَ بِزِيَادَةٍ أَحْدَثَتْ نَقْصًا، وَبِنَفْلٍ مَنَعَ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنِ اسْتِدَامَةِ الزِّيَادَةِ وَيُمْنَعَ مِنْ مُلاَزَمَةِ الاِسْتِكْثَارِ، مِنْ غَيْرِ
__________
(1) حديث: " عليكم بما تطيقون ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 101 - ط السلفية) من حديث عائشة.
إِخْلاَلٍ بِلاَزِمٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ فِي فَرْضٍ، فَهِيَ إِذَنْ قَصِيرَةُ الْمَدَى قَلِيلَةُ اللُّبْثِ، وَقَلِيل الْعَمَل فِي طَوِيل الزَّمَانِ أَفْضَل عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل مِنْ كَثِيرِ الْعَمَل فِي قَلِيل الزَّمَانِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَكْثِرَ مِنَ الْعَمَل فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ قَدْ يَعْمَل زَمَانًا وَيَتْرُكُ زَمَانًا، فَرُبَّمَا صَارَ فِي زَمَانِ تَرْكِهِ لاَهِيًا أَوْ سَاهِيًا، وَالْمُقَلِّل فِي الزَّمَانِ الطَّوِيل مُسْتَيْقِظَ الأَْفْكَارِ مُسْتَدِيمَ التَّذْكَارِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ لِكُل شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُل شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَْصَابِعِ فَلاَ تَعُدُّوهُ (1) . فَجَعَل لِلإِْسْلاَمِ شِرَّةً وَهِيَ الإِْيغَال فِي الإِْكْثَارِ، وَجَعَل لِلشِّرَّةِ فَتْرَةً وَهِيَ الإِْهْمَال بَعْدَ الاِسْتِكْثَارِ، فَلَمْ يَخْل بِمَا أَثْبَتَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَقْصِيرًا أَوْ إِخْلاَلاً، وَلاَ خَيْرَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا (2) .

الزِّيَادَةُ عَلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
29 - الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَفِظَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، قَال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، كَمَا
__________
(1) حديث: " إن لكل شيء شرَّة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 635 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 110 - 114 ط. الرابعة.
(3) سورة الحجر / 9.

الصفحة 78