كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 32)

مَا أَفْتَى بِهِ جَعَل لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ سَبِيلاً لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَال شُرَيْحٌ: أَنَا أَقْضِي لَكُمْ وَلاَ أُفْتِي، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي الإِْفْتَاءُ فِي مَسَائِل الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَغَيْرِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَفْتِي خُصُومَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَهُ فِيهَا. (2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ، كَالْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ وَالْجِنَايَاتِ.
قَال الْبُرْزُلِيُّ: وَهَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَوْ جَاءَهُ السُّؤَال مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَلاَ كَرَاهَةَ. (3)
ثُمَّ إِنْ أَفْتَى الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا، وَيَجُوزُ التَّرَافُعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ حَكَمَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِي النَّازِلَةِ بِعَيْنِهَا بِخِلاَفِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ (4) ، وَإِنْ رَدَّ شَهَادَةَ وَاحِدٍ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ، وَلاَ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 42، وإعلام الموقعين 4 / 220، وصفة الفتوى لابن حمدان ص29.
(2) حاشية ابن عابدين والدر المختار 4 / 302.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 139.
(4) إعلام الموقعين 4 / 221، وحاشية الدسوقي 4 / 157، وابن عابدين 4 / 326.
يُقَال: إِنَّهُ حَكَمَ بِكَذِبِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْهِلاَل، لأَِنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَدْخُل الْعِبَادَاتِ. (1)
كَمَا تَقَدَّمَ (ف 2، 9) .

مَا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْفَتْوَى:
22 - الْمُجْتَهِدُ يُفْتِي بِمُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالتَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ، فَيُفْتِي أَوَّلاً بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بِالإِْجْمَاعِ، وَأَمَّا الأَْدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَالاِسْتِحْسَانِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَفْتَى بِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْدِلَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِالرَّاجِحِ مِنْهَا.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي السَّعَةِ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ، مَا لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمَرْجُوحُ فِي نَظَرِهِ، نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْبَاجِيُّ (2) ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ - حَيْثُ قُلْنَا: يَجُوزُ إِفْتَاؤُهُ - فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِينَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَل عَنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ السَّائِل مِنْهُمْ يَسْأَل مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ سُؤَالُهُ مِنَ
__________
(1) شرح المنتهى 3 / 501.
(2) روضة الناظر 2 / 438، والموافقات 4 / 140، وإرشاد الفحول ص267.

الصفحة 32